الزمن وبنية التحول قراءة
في مجموعة ( الذي كان) لجمال التلاوي
بقلم / أحمد طوسون
المجموعة القصصية (الذي كان) للكاتب والناقد د.جمال التلاوي لا يحمل عنوانها عنوان أحد نصوصها وإن جاء ضمن سياق عنوانين من نصوص المجموعة وبالتحديد نصي (الطائر الذي كان) أول نصوص المجموعة و(الطفل الذي كان) آخر نصوص المجموعة ، إلا أن العنوان يبدو ذو وشائج بمختلف نصوص المجموعة، ويكشف للقارئ منذ الوهلة الأولى أننا أمام لعبة زمنية تقوم على فعل التحول ما بين زمنين، زمن الماضي ( الذي كان)، والزمن الحاضر الآني الذي صارت إليه مصائر شخوص وأبطال قصص المجموعة التي تقع في 112 صفحة من الحجم المتوسط و تحتوى على تسعة عشر عنوانا.
كل الشخوص والعلاقات والتجارب في نصوص المجموعة تبدأ في لحظة زمنية لتنتهي في لحظة زمنية أخرى شكلها الزمن بعواصفه وتقلباته، حينها تظهر عذابات الإنسان التي لا تنتهي عند لحظة بعينها!
ورغم أن المفارقة الزمنية بين الماضي/ الآني تمثل العامل المشترك الجامع بين نصوص المجموعة، لكن هذا لا يتعارض مع اختلاف المعطى الزمني و فضاءات الزمن من نص إلى آخر
وهو ما تعتزم هذه القراءة استجلاءه.
الزمن / المفارقة:
الزمن يعد في المجموعة أساسا مهما ينهض عليه السرد ويرتبط بتحولاته تحول جذري في مصائر الشخوص والنهايات التي يختارها السارد لنصوصه.
ولعل أبرز صور الزمن في نصوص المجموعة صورة الزمن المفارقة والذي يرصد التحول ما بين زمنين، الماضي/ الآني، والذي يحمل في معانية دلالة التناقض بين حالين، فغالبا ما يمثل الماضي حالة البراءة/ الفرح/ الأمل/ القدرة على الفعل، بينما الحاضر يمثل النقيض، انكسار ،خيبات ،وعجز.
لكن ورغم أن هذه الصورة تبدو في ظاهرها تشاؤمية سوداوية إلا أن بعض نصوص المجموعة ظلت مفتوحة أمام احتمالات القدرة على الفعل برغم التحول الحاد لمصائر الشخوص مع تغير الزمن كما في نص (الطائر الذي كان) الذي ينتهي باستمرار الطائر في الغناء (الحزين) رغم غياب المحبوبة..(صوتها يخفت.. صوته يعلو.. يخفت.. يعلو.. يخفت .. يعلو.. حتى اختفت.. وإلى الآن صوته الحزين يعزف ليل نهار.. دون توقف.. أغانيه الشجية..)ص9، ففعل الغناء يبدو وكأنه استمرار للأمل ومناجاة لا تنتهي للمحبوبة التي غابت.
بل أن البطل يتعدى فكرة الأمل إلى فكرة الفعل والقدرة عليه كما في قصة (الطفل الذي كان) برغم التحول/ الزمن.. ( وربما انتظروا أن يتعثر.. ربما.. ولكن الطفل الذي لم يعد صغيرا كان قد بدأ بالفعل يطأ الأرض بخطواته الأولى) ص 109.
وتعد قصص (الطائر الذي كان)، (الصفعة)، ( البالونة)، (حكاية الحصان الذي خسر السباق)، (نهاية)، أكثر النصوص تمثيلا لفكرة الزمن/ المفارقة.
مع ملاحظة أن قصة (الطائر الذي كان) لا تعتمد ثنائية الزمن.. الماضي/ الآني، وإنما يستدعي السرد زمنا ثالثا مضمرا، هو زمن الغناء الأول.. ( كان مشغولا بغنائه وصوته الجميل.. يسعد عندما يلتف حول قفصه الزوار ويظل ينتقل من مكان لآخر.. مرفرفا بجناحيه)ص6.
وبذا نصبح أمام ثلاثية زمنية، زمن مضمر/زمن الغناء الأول، زمن الماضي/ زمن الصمت واليأس( الذي يعجز الطبيب والحارس والزوار عن فهم واستجلاء أسبابه)، وأخيرا الزمن الآني/ زمن الغناء الشجي (الذي صاحب غياب المحبوبة التي أعادت إليه الغناء).
وفكرة الزمن المضمر رغم وجودها في نصوص أخرى إلا أنها لا تكسر ثنائية الزمن، الماضي / الآني التي تعتمدها نصوص المجموعة، كما وردت في قصة (نهاية) حيث يصبح الماضي زمنا مضمرا يستدعيه السرد دون حضور جلي كما في غيره من النصوص.. حيث يبدأ النص بلحظة راهنة يعيشها السارد تجعله يتساءل فيما بينه عن حقيقة ما حدث، ( هل بالفعل حدث ما حدث)، السؤال المفجر للحظة وعي السارد بالموت.. لكن التلاوي لا يكتفي بتجسيد الموت المادي وتكثيفه كما يفعل كثيرون غيره ، بل يطرحه على مستوييه المادي والمعنوي، ومن ثم يستدعي السرد زمنين مضمرين هما في حقيقتهما زمنا واحدا.. الزمن الماضي، الذي يقسمه إلى شقين معنوي يتمثل في الصمت والموت وجفوة الأهل والأصحاب ونسيانهم له، فالموت هنا انتقال من صمت وموت معنوي أشد وطأة إلى موت متحقق ( أخيرا تجيء هذه الخطابات المتسائلة لتوقظ عهودا من الصمت والموت) ص 68.
وشق ثان/ زمن ماضي مادي لا يستطيع استعادته الآن يتمثل في لحظاته الحميمة مع طفله وأمه.. ( وكنت حين أداعب طفلي "مرسي"يبتسم بعرض الكون، لكنه حتى الآن لا يبتسم.. ولا يشعر بي.. أقبل عليه.. فيذهب بعيدا.. بعيدا.. هل بالفعل حدث ما حدث ) ص69.
وفي (الصفعة) يظل أثر التحول ما بين زمنين، ما قبل الصفعة/ ما بعد الصفعة ، ماثلا ، مهما حاول (الفتوة الأوحد) وأعوانه نسيانه أو محوه بتوجيه الصفعات كل يوم إلى أحد مرتادي المقهى ، فما كان قبل الصفعة لم يعد ولن يعود كما كان!
( وارتفعت يده اليمنى تتحسس " قفاه"، وقف على التو، أتجه لمكان محدد ، أختار أحد الجالسين ، أنهال عليه ضربا، وأكمل أتباعه، أشار إليه وبأنه الذي صفعه بالأمس، أمن الجالسون والسائرون والواقفون.. بجوار المقهى وبجواره، قالوا"أحسن.. يستاهل"، تطوع بعضهم وساعد في الضرب لكنه حينما عاد لمكانه كانت يده اليمنى تسرع إلى قفاه تتحسسه.) ص 13.
ومهما اعتدى كل يوم على واحد جديد سيظل أسير الصفعة( لكن يده اليمنى لم تعد تكفي لأن تتحسس مكان الصفعة ، فكان يرفع يده اليمنى ليتحسس مكان الصفعة وينزلها حتى ترتفع اليد اليسرى مكانها تتحسس هي الأخرى مكان الصفعة
أدرك رواد المقهى أن ما كان قبل الصفعة على قفا "فتوتهم" لم يعد ولن يعود كما كان..)ص14.
كما أن دلالة الماضي/ الآني هنا تؤكد عدم استغراق النصوص في الانهزامية، والحنين إلى الماضي بدون رؤية للمستقبل ، فالماضي بما يمثله فعل الصفعة من كسر لسطوة "الفتوة" المطلقة، يظل أثره ممتدا للآني وربما للمستقبل برغم الاحباطات التي يواجهها كل يوم رواد المقهى بالصفع والضرب فإن أثر الصفعة سيظل ماثلا للجاني وللمجني عليه، شاهدا على قدرة صاحب الحق في التأثير مهما بلغ من ضعف مقارنة بالجاني!
الزمن النفسي:
الزمن النفسي هو زمن داخلي بامتياز، إنه زمان الرؤيا والحلم ، ذو منحى صوفي يتشابه و(الزمان الأنفسي) في تجربة ابن عربي حيث زمان الرؤيا والإسراء والمعراج وهو زمن يصفه محمد شمس الدين في مقال له بعنوان ( من ابن عربي إلى ت.س إليوت من الزمن النفسي إلى الزمن العظيم) بأنه يتميز بغياب الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل وتذوب فيه كامل التجارب الفردية.(مقال منشور على النت)
كما أنه في حقيقته يتشابه مع الزمن الوجودي الذي يبحث في وجود الإنسان ما بين الواقع والإمكان، فكما يقول باسكال عنه ( ليس في وسع المرء أن يحاول تعريف الزمن دون أن يقع في الخلف والإحالة).
ويتجلى تداع الزمن النفسي ذي المنحى الصوفي عند التلاوي في قصة (الياسمين)، الذي لا يمكننا هنا كما في حالة الزمن/ المفارقة تقسيمه إلى ماضي وآني.. فالزمن الواقعي ثابت يبدأ وينتهي في ذات اللحظة، بينما التحول يكون في الزمن النفسي الذي يتمثل في محطات المراقبة/ الوصول.
فالبطل في النص ينادونه ( سيد أبوكوبَّة- سيد العبيط) ص16، فالإشارة هنا واضحة من السارد إلى أن البطل المسرود عنه لا يمتلك المعايير المتعارف عليها بين العامة لذا وصموه (بالعبيط).. رغم أن النص سيكشف فيما بعد عن عمق أسئلته الوجودية حين يتماهى مع السارد كما في قوله ( هل كان له موقع بالفعل من قبل؟)ص19، أو في مناجاته لنفسه وتساؤلاته عن الأزمنة الأولى ونفيه للحلم الذي يثبت في الآن ذاته ثبوت الرؤيا المرتبط بالتجلي في النص.. (لو كانت هناك أزمنة أولى، لكنت نظرت لعينيها وقلت لها " أنت رقيقة كالياسمين"، ربما تستدير فتحمر وجنتاها وتصبحان كبراعم الياسمين قبل أن تتفتح ويشوبها خط أحمر، فأتراجع ولا أقول شيئا أو ربما أقول لها ذلك في الحلم، لكني لا أحلم)ص21
ويمكن تقسيم الزمن النفسي في القصة إلى مراحل الغنود/الإدراك/الورود/الكشف.. فالزمن هنا تحول إلى حالة من حالات المراقبة بتجلياتها.
فالغنود: الذي يمثل أول مراحل التأمل ويعقبه السبات يتمثل في المقطع الأول من القصة حيث يتأمل حاله ويلملم بقاياه ويشغل (بقعة صغيرة من الأرض الكبيرة تلك التي يشغلها – دون أن يملكها)ص15 ، ويظل يتأمل حاله وحال ما حوله حتى يدخل في السبات الذي يحرره من طبيعته للدخول في مرحلة الإدراك ( تخفت النار.. تخفت.. تتلاشى..ثمة شيء لم يكن.. وأي شيء يمكن أن يكون..عاد الظلام، وعاد الصقيع، وقبل ذلك لم يكن شيئا.. وأي شيء يمكن أن يكون.. عاد الظلام، وعاد الصقيع، وقبل ذلك لم يكن شيئا، لم تكن نيران ودفء، ولم يكن صقيع ولم تكن رحلة بحث عن حصاد يدفئه................... ............... إلى قوله: ويمتد الليل.. والكون حوله يردد أنفاسه) ص19,18.
الإدراك: يصبح السبات تأمل ويصبح المريد في حالة يستطيع معها أن يرى فيما وراء اللا وعي ( هل تعرض لمثل هذه الشمس من قبل؟ أنه يتعرض لها لأول وهلة) ص 23.
هنا لا يصبح معنى للسؤال عن أزمنة أولى حيث التحول قد وقع وسيقود الإدراك إلى ورود فيدرك ما يدركه عامة الناس( الشجرة تسقط عليه بعضا من ثمارها فيمد يده يأكل حتى يشبع.. يشبع ما دام يأكل، ما دام الثمر، والثمر يساقط ما دامت الشجرة، والشجرة تحنو عليه فيلتصق بها)ص20.
حتى تتسع الرؤية ويصل إلى الكشف والشهود فتتسع الرؤية ويصبح المدى حوله لا نهائيا.. ( الكون حوله متسع.. والمدى لا نهائي.. وهو.. يتكئ على عصاه.. وأنفاسه تتعالى.. فيرددها الكون حوله..) ص22.
أيضا نجد التداعي ذاته للزمن النفسي ولكن بمنحى وجودي هذه المرة في نصي (حكاية القطة التي أكلت أولادها) و(أشواك الورد) حيث اللحظة الثابتة والمتحول /الزمن النفسي من خلال الطرح لأسئلة الذات.
الزمن النسبي:
حيث التحول يحدث وفقا لنسبية الرؤية ولا يرتبط فقط بتغير الزمن الماضي/ الآني، فمع تغير الزمن يكون حال الشخوص أقرب إلى الثبات لكن التحول ينتج لنسبية الرؤية من زمن إلى آخر.. ودلالات الزمن النسبي تحضر بوضوح في نصوص:(عبث)، (قراءة في نص حجري)، (أغنية رمادية)، (الطفل الذي كان).
ففي قصة ( الطفل الذي كان) تصبح الخطوات المتعثرة ثابتة والمتحول/النسبي رؤية السارد التي تختلف باختلاف الزمن.. فالخطوات المتعثرة في الزمن الذي كان/الماضي، زمن الطفولة تصبح مصدرا للفرح والبهجة لاعتقاد الطفل أن هذه الخطوات مصدر الفرح وحشد المقربين حوله ومنحه ما يحتاجه من الحب والحنان، ( إذا ما سقط امتدت عشرات الأيادي لتلحق به من قبل أن يلحق هو بالأرض.. إذا ما تعثر خفق قلب الأم .. وأسرع والده..عندما يخطو خطوة أخرى يجد هدايا الأب في انتظاره..)ص105
خطوات لم تكن محسوبة بحسابات أخرى .. خطوات طفولية بزخم البراءة، رغم تعثرها إلا أن السارد كان يعتبرها لعبة تثير اهتمام من حوله به ويسعد الطفل المسرود عنه لأن الوعي/النسبي رآها بمنظوره الخاص.. ( الطفل الذي كان صغيرا- ربما أعجبته اللعبة فيحاول أن يجذب انتباههم أكثر يسرع الخطو فيسرعون معه.. إذا تعثر صرخ ليلتفوا حوله.. وإذا سقط، أطال البكاء ليحتضنوه..)ص106
لكن عندما يتغير الزمن، التحول/النسبي، تصطدم الخطوات المتعثرة بخطوط حمراء لم تكن موجودة في زمن الطفولة الأول.. وهي في حقيقتها خطوط متوهمة صنيعة وعي بطل النص، (خطواتك الآن لن تكون للأمام ولن تكون مطلقة.. أومأ في صمت.. لم يقل له أحد منهم ذلك لكنه من نظراتهم أدرك.. قانون صامت يحكمه ويحكمهم..)ص107.
فالتغير/التحول في حالة بطل النص ليس مرهونا بالتغير في الزمن بقدر ما هو مرهون بوعيه ووعي من حوله.. الوعي الذي حول فرح الخطوات المتعثرة إلى ألم يتضاعف بعدم قدرة بطل النص على الإعلان عن ألمه.. ( لا ينبغي أن يعلن عن ألمه إلا لنفسه..) ص107.
فالزمن هنا لا يرتبط بالحدث/الخطوات المتعثرة، بقدر ارتباطه بالوعي.. فالزمن الوعي الذي كان، جعل نظرات من حوله حب واهتمام وحنان.. جعلها في وعي نسبي آخر نظرات متربصة ساخرة لا تحمل ودها وحنانها القديم.. (الطفل الذي لم يعد صغيرا .. يحاول خطواته الأولى.. الخطوة الأولى تسبقها حسابات كثيرة.. واحتمالات أكثر)ص108.. ( وكانت العيون الساخرة التي تراقبه تنتظر سقوطه.. أو تعثر خطواته..)ص109.
وكما في قصة (الطائر الذي كان) لا تعتمد قصة (الطفل الذي كان) ثنائية الزمن الماضي/ الآني المهيمنة في أغلب نصوص المجموعة، فيجد المتلقي نفسه أمام زمن/وعي ثالث، يتشكل في نهاية القصة حين يتجاوز البطل المسرود عنه وعي الزمنين الماضيين، مشكلا لحظته الراهنة بوعي جديد قادر على تجاوز ما حوله وتجاوز كل تعثراته في سبيل خطوة تقوده إلى المسار الصحيح ويكون بقدرته أن يطأ الأرض بخطواته الأولى.. ( وربما انتظروا أن يتعثر.. ربما.. ولكن الطفل الذي لم يعد صغيرا كان قد بدأ بالفعل يطأ الأرض بخطواته الأولى)ص109.
فالتحولات التي حدثت للطفل في القصة لم يكن لها علاقة بتغير الزمن (حتى مع أثره في تغير الوعي) بقدر ما كان التحول رهينا بنسبية الوعي والرؤية عند الطفل.. فنجده في زمنين متجاورين انتقل من العجز والألم إلى الثقة والإقدام على خطوة في الطريق الصحيح.
الزمن/السرد:
يعتمد الكاتب في أغلب نصوص المجموعة الحكي الشفوي بسياق رواية القص مما يحيل مرجعية النصوص إلى مرجعية تراثية تتماس مع تاريخ القص العربي في حكايات ألف ليلة وليلة، أو الحكايات الشعبية، وقد حرص صراحة على عنونة القسم الثاني من نصوص المجموعة ب(حكى يحكي حكاية) استعاضة عن استخدام مفتتح في بداية كل نص كمفتتح (يحكى أن).. وبخاصة في نصوص (حكاية الحصان الذي خسر السباق)، (حكاية القطة التي أكلت أولادها والفأر الذي لعب بذيله)،و(حكاية البالونة).
وما يهمنا هنا وفقا لمنطق القراءة ارتباط الأداء السردي بفكرة تغير الزمن.. حيث حرص الكاتب أن يواكب التحول الزمني في نصوص المجموعة تحول سردي.. خاصة في استخدام الراوي(الحاكي) والتحول إلى الأنا الساردة مع التحول من الزمن الماضي إلى الزمن الآني في بعض النصوص وتبادل دورهما كما في قصة (زلزال) حيث يبدأ الكاتب باستخدام ضمير الغائب (هو).. (حين بدأ يفيق ويشعر بنفسه وما حوله..) ص71 ، لكنه سرعان ما يتحول إلى الأنا الساردة تحول عابر من خلال حوار مفترض بين الابن وأبيه، ( كان يود لو يرمي نفسه في حضن أبيه يقول له: ها أنا ذا أصبح لدي طفل..)ص72.. كان من المفترض مع انتهاء الحوار أن يعود إلى أداته السردية الأساسية لكننا نكتشف أن الكاتب اختار التحول إلى استخدام الأنا الساردة حتى مع انتهاء الحوار.. (يوم جاء ابني إلى الدنيا حملته بين ذراعي وأسرعت..)ص72.. هذا التحول بين ضمير الغائب الذي يستخدمه الراوي إلى ضمير المتكلم الذي تستخدمه الأنا الساردة سيشكل ظاهرة في بعض نصوص المجموعة يواكب التحول الزمني بين زمني الماضي/الآني، فيرتبط الزمن الماضي باستخدام ضمير الغائب (هو)، ثم مع التغير الحادث في الزمن يتحول الكاتب إلى استخدام ضمير المتكلم (الأنا).. ففي قصة (شرفة تطل على نهر) يستخدم الراوي الضمير (هو) في الزمن الماضي / مرحلة الذي كان حينما كان المسرود عنه يمتلك بيتا وحلما.. ( من شرفة غرفته المطلة على النهر ، كان يطل على النيل، يراه متسعا وعميقا..)ص93 ، ثم يتحول السارد مع تغير الحال وضياع البيت والأحلام إلى الأنا الساردة التي تبدو أكثر تعبيرا عن شجن ضياع الأحلام.
ويبدو الزمن في قصة ( نغم) دائريا يعيد إنتاج نفسه، ويتداخل صوت السارد مع صوت المسرود عنها أم الشهيد، ويحدث أكثر من تحول على مستوى السرد ما بين الضميرين (هو)، (أنا)، يواكب التحول والتداخل الزمني بين ثنائية الماضي/ الآني.. ليفصح النص مع نهايته عن دائرية الزمن، وتصبح نغم في صدام مع الاحتلال الغاشم و المصير نفسه الذي واجه شادي الذي كان .
.
بقلم / أحمد طوسون
المجموعة القصصية (الذي كان) للكاتب والناقد د.جمال التلاوي لا يحمل عنوانها عنوان أحد نصوصها وإن جاء ضمن سياق عنوانين من نصوص المجموعة وبالتحديد نصي (الطائر الذي كان) أول نصوص المجموعة و(الطفل الذي كان) آخر نصوص المجموعة ، إلا أن العنوان يبدو ذو وشائج بمختلف نصوص المجموعة، ويكشف للقارئ منذ الوهلة الأولى أننا أمام لعبة زمنية تقوم على فعل التحول ما بين زمنين، زمن الماضي ( الذي كان)، والزمن الحاضر الآني الذي صارت إليه مصائر شخوص وأبطال قصص المجموعة التي تقع في 112 صفحة من الحجم المتوسط و تحتوى على تسعة عشر عنوانا.
كل الشخوص والعلاقات والتجارب في نصوص المجموعة تبدأ في لحظة زمنية لتنتهي في لحظة زمنية أخرى شكلها الزمن بعواصفه وتقلباته، حينها تظهر عذابات الإنسان التي لا تنتهي عند لحظة بعينها!
ورغم أن المفارقة الزمنية بين الماضي/ الآني تمثل العامل المشترك الجامع بين نصوص المجموعة، لكن هذا لا يتعارض مع اختلاف المعطى الزمني و فضاءات الزمن من نص إلى آخر
وهو ما تعتزم هذه القراءة استجلاءه.
الزمن / المفارقة:
الزمن يعد في المجموعة أساسا مهما ينهض عليه السرد ويرتبط بتحولاته تحول جذري في مصائر الشخوص والنهايات التي يختارها السارد لنصوصه.
ولعل أبرز صور الزمن في نصوص المجموعة صورة الزمن المفارقة والذي يرصد التحول ما بين زمنين، الماضي/ الآني، والذي يحمل في معانية دلالة التناقض بين حالين، فغالبا ما يمثل الماضي حالة البراءة/ الفرح/ الأمل/ القدرة على الفعل، بينما الحاضر يمثل النقيض، انكسار ،خيبات ،وعجز.
لكن ورغم أن هذه الصورة تبدو في ظاهرها تشاؤمية سوداوية إلا أن بعض نصوص المجموعة ظلت مفتوحة أمام احتمالات القدرة على الفعل برغم التحول الحاد لمصائر الشخوص مع تغير الزمن كما في نص (الطائر الذي كان) الذي ينتهي باستمرار الطائر في الغناء (الحزين) رغم غياب المحبوبة..(صوتها يخفت.. صوته يعلو.. يخفت.. يعلو.. يخفت .. يعلو.. حتى اختفت.. وإلى الآن صوته الحزين يعزف ليل نهار.. دون توقف.. أغانيه الشجية..)ص9، ففعل الغناء يبدو وكأنه استمرار للأمل ومناجاة لا تنتهي للمحبوبة التي غابت.
بل أن البطل يتعدى فكرة الأمل إلى فكرة الفعل والقدرة عليه كما في قصة (الطفل الذي كان) برغم التحول/ الزمن.. ( وربما انتظروا أن يتعثر.. ربما.. ولكن الطفل الذي لم يعد صغيرا كان قد بدأ بالفعل يطأ الأرض بخطواته الأولى) ص 109.
وتعد قصص (الطائر الذي كان)، (الصفعة)، ( البالونة)، (حكاية الحصان الذي خسر السباق)، (نهاية)، أكثر النصوص تمثيلا لفكرة الزمن/ المفارقة.
مع ملاحظة أن قصة (الطائر الذي كان) لا تعتمد ثنائية الزمن.. الماضي/ الآني، وإنما يستدعي السرد زمنا ثالثا مضمرا، هو زمن الغناء الأول.. ( كان مشغولا بغنائه وصوته الجميل.. يسعد عندما يلتف حول قفصه الزوار ويظل ينتقل من مكان لآخر.. مرفرفا بجناحيه)ص6.
وبذا نصبح أمام ثلاثية زمنية، زمن مضمر/زمن الغناء الأول، زمن الماضي/ زمن الصمت واليأس( الذي يعجز الطبيب والحارس والزوار عن فهم واستجلاء أسبابه)، وأخيرا الزمن الآني/ زمن الغناء الشجي (الذي صاحب غياب المحبوبة التي أعادت إليه الغناء).
وفكرة الزمن المضمر رغم وجودها في نصوص أخرى إلا أنها لا تكسر ثنائية الزمن، الماضي / الآني التي تعتمدها نصوص المجموعة، كما وردت في قصة (نهاية) حيث يصبح الماضي زمنا مضمرا يستدعيه السرد دون حضور جلي كما في غيره من النصوص.. حيث يبدأ النص بلحظة راهنة يعيشها السارد تجعله يتساءل فيما بينه عن حقيقة ما حدث، ( هل بالفعل حدث ما حدث)، السؤال المفجر للحظة وعي السارد بالموت.. لكن التلاوي لا يكتفي بتجسيد الموت المادي وتكثيفه كما يفعل كثيرون غيره ، بل يطرحه على مستوييه المادي والمعنوي، ومن ثم يستدعي السرد زمنين مضمرين هما في حقيقتهما زمنا واحدا.. الزمن الماضي، الذي يقسمه إلى شقين معنوي يتمثل في الصمت والموت وجفوة الأهل والأصحاب ونسيانهم له، فالموت هنا انتقال من صمت وموت معنوي أشد وطأة إلى موت متحقق ( أخيرا تجيء هذه الخطابات المتسائلة لتوقظ عهودا من الصمت والموت) ص 68.
وشق ثان/ زمن ماضي مادي لا يستطيع استعادته الآن يتمثل في لحظاته الحميمة مع طفله وأمه.. ( وكنت حين أداعب طفلي "مرسي"يبتسم بعرض الكون، لكنه حتى الآن لا يبتسم.. ولا يشعر بي.. أقبل عليه.. فيذهب بعيدا.. بعيدا.. هل بالفعل حدث ما حدث ) ص69.
وفي (الصفعة) يظل أثر التحول ما بين زمنين، ما قبل الصفعة/ ما بعد الصفعة ، ماثلا ، مهما حاول (الفتوة الأوحد) وأعوانه نسيانه أو محوه بتوجيه الصفعات كل يوم إلى أحد مرتادي المقهى ، فما كان قبل الصفعة لم يعد ولن يعود كما كان!
( وارتفعت يده اليمنى تتحسس " قفاه"، وقف على التو، أتجه لمكان محدد ، أختار أحد الجالسين ، أنهال عليه ضربا، وأكمل أتباعه، أشار إليه وبأنه الذي صفعه بالأمس، أمن الجالسون والسائرون والواقفون.. بجوار المقهى وبجواره، قالوا"أحسن.. يستاهل"، تطوع بعضهم وساعد في الضرب لكنه حينما عاد لمكانه كانت يده اليمنى تسرع إلى قفاه تتحسسه.) ص 13.
ومهما اعتدى كل يوم على واحد جديد سيظل أسير الصفعة( لكن يده اليمنى لم تعد تكفي لأن تتحسس مكان الصفعة ، فكان يرفع يده اليمنى ليتحسس مكان الصفعة وينزلها حتى ترتفع اليد اليسرى مكانها تتحسس هي الأخرى مكان الصفعة
أدرك رواد المقهى أن ما كان قبل الصفعة على قفا "فتوتهم" لم يعد ولن يعود كما كان..)ص14.
كما أن دلالة الماضي/ الآني هنا تؤكد عدم استغراق النصوص في الانهزامية، والحنين إلى الماضي بدون رؤية للمستقبل ، فالماضي بما يمثله فعل الصفعة من كسر لسطوة "الفتوة" المطلقة، يظل أثره ممتدا للآني وربما للمستقبل برغم الاحباطات التي يواجهها كل يوم رواد المقهى بالصفع والضرب فإن أثر الصفعة سيظل ماثلا للجاني وللمجني عليه، شاهدا على قدرة صاحب الحق في التأثير مهما بلغ من ضعف مقارنة بالجاني!
الزمن النفسي:
الزمن النفسي هو زمن داخلي بامتياز، إنه زمان الرؤيا والحلم ، ذو منحى صوفي يتشابه و(الزمان الأنفسي) في تجربة ابن عربي حيث زمان الرؤيا والإسراء والمعراج وهو زمن يصفه محمد شمس الدين في مقال له بعنوان ( من ابن عربي إلى ت.س إليوت من الزمن النفسي إلى الزمن العظيم) بأنه يتميز بغياب الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل وتذوب فيه كامل التجارب الفردية.(مقال منشور على النت)
كما أنه في حقيقته يتشابه مع الزمن الوجودي الذي يبحث في وجود الإنسان ما بين الواقع والإمكان، فكما يقول باسكال عنه ( ليس في وسع المرء أن يحاول تعريف الزمن دون أن يقع في الخلف والإحالة).
ويتجلى تداع الزمن النفسي ذي المنحى الصوفي عند التلاوي في قصة (الياسمين)، الذي لا يمكننا هنا كما في حالة الزمن/ المفارقة تقسيمه إلى ماضي وآني.. فالزمن الواقعي ثابت يبدأ وينتهي في ذات اللحظة، بينما التحول يكون في الزمن النفسي الذي يتمثل في محطات المراقبة/ الوصول.
فالبطل في النص ينادونه ( سيد أبوكوبَّة- سيد العبيط) ص16، فالإشارة هنا واضحة من السارد إلى أن البطل المسرود عنه لا يمتلك المعايير المتعارف عليها بين العامة لذا وصموه (بالعبيط).. رغم أن النص سيكشف فيما بعد عن عمق أسئلته الوجودية حين يتماهى مع السارد كما في قوله ( هل كان له موقع بالفعل من قبل؟)ص19، أو في مناجاته لنفسه وتساؤلاته عن الأزمنة الأولى ونفيه للحلم الذي يثبت في الآن ذاته ثبوت الرؤيا المرتبط بالتجلي في النص.. (لو كانت هناك أزمنة أولى، لكنت نظرت لعينيها وقلت لها " أنت رقيقة كالياسمين"، ربما تستدير فتحمر وجنتاها وتصبحان كبراعم الياسمين قبل أن تتفتح ويشوبها خط أحمر، فأتراجع ولا أقول شيئا أو ربما أقول لها ذلك في الحلم، لكني لا أحلم)ص21
ويمكن تقسيم الزمن النفسي في القصة إلى مراحل الغنود/الإدراك/الورود/الكشف.. فالزمن هنا تحول إلى حالة من حالات المراقبة بتجلياتها.
فالغنود: الذي يمثل أول مراحل التأمل ويعقبه السبات يتمثل في المقطع الأول من القصة حيث يتأمل حاله ويلملم بقاياه ويشغل (بقعة صغيرة من الأرض الكبيرة تلك التي يشغلها – دون أن يملكها)ص15 ، ويظل يتأمل حاله وحال ما حوله حتى يدخل في السبات الذي يحرره من طبيعته للدخول في مرحلة الإدراك ( تخفت النار.. تخفت.. تتلاشى..ثمة شيء لم يكن.. وأي شيء يمكن أن يكون..عاد الظلام، وعاد الصقيع، وقبل ذلك لم يكن شيئا.. وأي شيء يمكن أن يكون.. عاد الظلام، وعاد الصقيع، وقبل ذلك لم يكن شيئا، لم تكن نيران ودفء، ولم يكن صقيع ولم تكن رحلة بحث عن حصاد يدفئه................... ............... إلى قوله: ويمتد الليل.. والكون حوله يردد أنفاسه) ص19,18.
الإدراك: يصبح السبات تأمل ويصبح المريد في حالة يستطيع معها أن يرى فيما وراء اللا وعي ( هل تعرض لمثل هذه الشمس من قبل؟ أنه يتعرض لها لأول وهلة) ص 23.
هنا لا يصبح معنى للسؤال عن أزمنة أولى حيث التحول قد وقع وسيقود الإدراك إلى ورود فيدرك ما يدركه عامة الناس( الشجرة تسقط عليه بعضا من ثمارها فيمد يده يأكل حتى يشبع.. يشبع ما دام يأكل، ما دام الثمر، والثمر يساقط ما دامت الشجرة، والشجرة تحنو عليه فيلتصق بها)ص20.
حتى تتسع الرؤية ويصل إلى الكشف والشهود فتتسع الرؤية ويصبح المدى حوله لا نهائيا.. ( الكون حوله متسع.. والمدى لا نهائي.. وهو.. يتكئ على عصاه.. وأنفاسه تتعالى.. فيرددها الكون حوله..) ص22.
أيضا نجد التداعي ذاته للزمن النفسي ولكن بمنحى وجودي هذه المرة في نصي (حكاية القطة التي أكلت أولادها) و(أشواك الورد) حيث اللحظة الثابتة والمتحول /الزمن النفسي من خلال الطرح لأسئلة الذات.
الزمن النسبي:
حيث التحول يحدث وفقا لنسبية الرؤية ولا يرتبط فقط بتغير الزمن الماضي/ الآني، فمع تغير الزمن يكون حال الشخوص أقرب إلى الثبات لكن التحول ينتج لنسبية الرؤية من زمن إلى آخر.. ودلالات الزمن النسبي تحضر بوضوح في نصوص:(عبث)، (قراءة في نص حجري)، (أغنية رمادية)، (الطفل الذي كان).
ففي قصة ( الطفل الذي كان) تصبح الخطوات المتعثرة ثابتة والمتحول/النسبي رؤية السارد التي تختلف باختلاف الزمن.. فالخطوات المتعثرة في الزمن الذي كان/الماضي، زمن الطفولة تصبح مصدرا للفرح والبهجة لاعتقاد الطفل أن هذه الخطوات مصدر الفرح وحشد المقربين حوله ومنحه ما يحتاجه من الحب والحنان، ( إذا ما سقط امتدت عشرات الأيادي لتلحق به من قبل أن يلحق هو بالأرض.. إذا ما تعثر خفق قلب الأم .. وأسرع والده..عندما يخطو خطوة أخرى يجد هدايا الأب في انتظاره..)ص105
خطوات لم تكن محسوبة بحسابات أخرى .. خطوات طفولية بزخم البراءة، رغم تعثرها إلا أن السارد كان يعتبرها لعبة تثير اهتمام من حوله به ويسعد الطفل المسرود عنه لأن الوعي/النسبي رآها بمنظوره الخاص.. ( الطفل الذي كان صغيرا- ربما أعجبته اللعبة فيحاول أن يجذب انتباههم أكثر يسرع الخطو فيسرعون معه.. إذا تعثر صرخ ليلتفوا حوله.. وإذا سقط، أطال البكاء ليحتضنوه..)ص106
لكن عندما يتغير الزمن، التحول/النسبي، تصطدم الخطوات المتعثرة بخطوط حمراء لم تكن موجودة في زمن الطفولة الأول.. وهي في حقيقتها خطوط متوهمة صنيعة وعي بطل النص، (خطواتك الآن لن تكون للأمام ولن تكون مطلقة.. أومأ في صمت.. لم يقل له أحد منهم ذلك لكنه من نظراتهم أدرك.. قانون صامت يحكمه ويحكمهم..)ص107.
فالتغير/التحول في حالة بطل النص ليس مرهونا بالتغير في الزمن بقدر ما هو مرهون بوعيه ووعي من حوله.. الوعي الذي حول فرح الخطوات المتعثرة إلى ألم يتضاعف بعدم قدرة بطل النص على الإعلان عن ألمه.. ( لا ينبغي أن يعلن عن ألمه إلا لنفسه..) ص107.
فالزمن هنا لا يرتبط بالحدث/الخطوات المتعثرة، بقدر ارتباطه بالوعي.. فالزمن الوعي الذي كان، جعل نظرات من حوله حب واهتمام وحنان.. جعلها في وعي نسبي آخر نظرات متربصة ساخرة لا تحمل ودها وحنانها القديم.. (الطفل الذي لم يعد صغيرا .. يحاول خطواته الأولى.. الخطوة الأولى تسبقها حسابات كثيرة.. واحتمالات أكثر)ص108.. ( وكانت العيون الساخرة التي تراقبه تنتظر سقوطه.. أو تعثر خطواته..)ص109.
وكما في قصة (الطائر الذي كان) لا تعتمد قصة (الطفل الذي كان) ثنائية الزمن الماضي/ الآني المهيمنة في أغلب نصوص المجموعة، فيجد المتلقي نفسه أمام زمن/وعي ثالث، يتشكل في نهاية القصة حين يتجاوز البطل المسرود عنه وعي الزمنين الماضيين، مشكلا لحظته الراهنة بوعي جديد قادر على تجاوز ما حوله وتجاوز كل تعثراته في سبيل خطوة تقوده إلى المسار الصحيح ويكون بقدرته أن يطأ الأرض بخطواته الأولى.. ( وربما انتظروا أن يتعثر.. ربما.. ولكن الطفل الذي لم يعد صغيرا كان قد بدأ بالفعل يطأ الأرض بخطواته الأولى)ص109.
فالتحولات التي حدثت للطفل في القصة لم يكن لها علاقة بتغير الزمن (حتى مع أثره في تغير الوعي) بقدر ما كان التحول رهينا بنسبية الوعي والرؤية عند الطفل.. فنجده في زمنين متجاورين انتقل من العجز والألم إلى الثقة والإقدام على خطوة في الطريق الصحيح.
الزمن/السرد:
يعتمد الكاتب في أغلب نصوص المجموعة الحكي الشفوي بسياق رواية القص مما يحيل مرجعية النصوص إلى مرجعية تراثية تتماس مع تاريخ القص العربي في حكايات ألف ليلة وليلة، أو الحكايات الشعبية، وقد حرص صراحة على عنونة القسم الثاني من نصوص المجموعة ب(حكى يحكي حكاية) استعاضة عن استخدام مفتتح في بداية كل نص كمفتتح (يحكى أن).. وبخاصة في نصوص (حكاية الحصان الذي خسر السباق)، (حكاية القطة التي أكلت أولادها والفأر الذي لعب بذيله)،و(حكاية البالونة).
وما يهمنا هنا وفقا لمنطق القراءة ارتباط الأداء السردي بفكرة تغير الزمن.. حيث حرص الكاتب أن يواكب التحول الزمني في نصوص المجموعة تحول سردي.. خاصة في استخدام الراوي(الحاكي) والتحول إلى الأنا الساردة مع التحول من الزمن الماضي إلى الزمن الآني في بعض النصوص وتبادل دورهما كما في قصة (زلزال) حيث يبدأ الكاتب باستخدام ضمير الغائب (هو).. (حين بدأ يفيق ويشعر بنفسه وما حوله..) ص71 ، لكنه سرعان ما يتحول إلى الأنا الساردة تحول عابر من خلال حوار مفترض بين الابن وأبيه، ( كان يود لو يرمي نفسه في حضن أبيه يقول له: ها أنا ذا أصبح لدي طفل..)ص72.. كان من المفترض مع انتهاء الحوار أن يعود إلى أداته السردية الأساسية لكننا نكتشف أن الكاتب اختار التحول إلى استخدام الأنا الساردة حتى مع انتهاء الحوار.. (يوم جاء ابني إلى الدنيا حملته بين ذراعي وأسرعت..)ص72.. هذا التحول بين ضمير الغائب الذي يستخدمه الراوي إلى ضمير المتكلم الذي تستخدمه الأنا الساردة سيشكل ظاهرة في بعض نصوص المجموعة يواكب التحول الزمني بين زمني الماضي/الآني، فيرتبط الزمن الماضي باستخدام ضمير الغائب (هو)، ثم مع التغير الحادث في الزمن يتحول الكاتب إلى استخدام ضمير المتكلم (الأنا).. ففي قصة (شرفة تطل على نهر) يستخدم الراوي الضمير (هو) في الزمن الماضي / مرحلة الذي كان حينما كان المسرود عنه يمتلك بيتا وحلما.. ( من شرفة غرفته المطلة على النهر ، كان يطل على النيل، يراه متسعا وعميقا..)ص93 ، ثم يتحول السارد مع تغير الحال وضياع البيت والأحلام إلى الأنا الساردة التي تبدو أكثر تعبيرا عن شجن ضياع الأحلام.
ويبدو الزمن في قصة ( نغم) دائريا يعيد إنتاج نفسه، ويتداخل صوت السارد مع صوت المسرود عنها أم الشهيد، ويحدث أكثر من تحول على مستوى السرد ما بين الضميرين (هو)، (أنا)، يواكب التحول والتداخل الزمني بين ثنائية الماضي/ الآني.. ليفصح النص مع نهايته عن دائرية الزمن، وتصبح نغم في صدام مع الاحتلال الغاشم و المصير نفسه الذي واجه شادي الذي كان .
.
حكايات الأطفال محاولة لفهم العالم
أحمد طوسون
تبدو الحكاية في مجموعة "جنة الحكايات" لمحمد عاشور هاشم محاولة من الكاتب بمشاركة الطفل الموجه إليه نصوص المجموعة لفهم العالم، من خلال إلقاء الضوء على القيم الأساسية كالخير والعدل والجمال مقارنة بنقائضها والتوافق مع الحقائق والمسلمات الكبرى كالحياة والموت.
• مفتتح دال:
ولعل الكاتب حرص أن يقدم مجموعته بمفتتح دال يقول فيه: "يُحكى أن.. كانت هناك جنة على جانب الطريق يقصدها ذوو الأسفار البعيدة يجلسون تحت أشجارها يعيرونها آذانهم فتأخذها وتملؤها بالزاد والزواّد الذي يعينهم في سفرهم البعيد..". فالمفتتح الذي استهل به الكاتب مجموعته يؤكد على هوية النصوص فنيا وانتمائها لموروث الحكاية العربية المستمد من حكايات ألف ليلة وليلة ومع التراث السردي العربي بعامة والتي تبدأ نصوصه عادة باستخدام المفتتح "يحكى أن..".
أما على المستوى التربوي فهو يكشف عن رؤية الكاتب للحكاية وقيمتها في تشكيل شخصية الطفل (الإنسان عامة) وإعداده لفهم العالم والتعامل مع مواقف الحياة المختلفة.
فالحكاية بمثابة المعلم الذي نتعلم منه الدروس والعبر ونفهم من خلاله أمورا قد يستعصى علينا استيعابها والتعامل مع صدماتها إن لم نكن تزودنا بالزاد الذي يعيننا على محاولة التكيف ومواصلة الحياة.
بهذا المنطق يمكننا أن ندخل إلى عوالم قصص وحكايات المجموعة لنستجلي بعض القيم الهامة داخل إطارها الفني:
• "العصفور الصغير" قيمة العمل ودور الجماعة في تقويم الفرد:
في قصة العصفور الصغير تتولى العصفورة الأم صغيرها بالحب والرعاية.. وهو دور هام وأساسي للمجتمع تجاه الفرد لكنه ليس كافيا لنخلق شخصية نافعة لنفسها ومجتمعها فكان لا بد للأم أن تغرس قيمة أساسية موازية للحب والرعاية قيمة العمل والاعتماد على النفس لمواجهة الأخطار.. "أنت كبرت الآن بما فيه الكفاية، فعليك أن تتعلم الطيران.. لكي تصبح عصفورا قويا.. تسعى على رزقك وتحمي نفسك". لكن العصفور الصغير الذي اعتاد أن يحصل على ما يريد بسهولة أصبح كسولا لذا لم يرضخ لرغبة أمه ورفض تعلم الطيران.
والكسل كقيمة سلبية سيمتد أثره ليدفع بالعصفور إلى قيمة سلبية أخرى هي "الكذب" لتبرير إحجامه عن الطيران أمام أمه.. "فتظاهر بالبكاء وغمغم: أنه لا ذنب له في ذلك، فهو - خلق على ما يبدو - لا يستطيع الطيران".
وكان لا بد لجماعة الطيور أن يبذلوا محاولاتهم لتقويم العصفور الصغير، فنصح أبوقردان الأم: "أن تتركه بلا طعام أو شراب حتى يدفعه الجوع والعطش إلى الخروج من العش والطيران بحثا عنهما".
وحاول الغراب والهدهد والببغاء وأبو فصاده، لكن القيم السلبية كالكسل والكذب والاعتماد على الغير جعلت العصفور يضر نفسه ويصاب بالضعف والهزال وآلام الجوع ولا يستجيب لتعاليم جماعة الطيور.
فكان لا بد من جزاء لخروج الصغير على تعاليم الجماعة وتعلم الطيران والاعتماد على النفس، فيتعرض العصفور الصغير لهجوم قوى شريرة (الثعبان) لم يستعد لمواجهتها بتعلم الطيران.
فالطيران الذي كان الكاتب يقدمه في بداية القصة على أنه وسيلة تعين العصفور في الاعتماد على نفسه في تدبير طعامه وشرابه يتحول في مواجهة الثعبان إلى سلاح ضروري لمواجهة خطر اعتداء الثعبان.
وهنا تكثيف عميق لفكرة العمل والاجتهاد التي لا ترتبط فقط بسد الاحتياجات الضرورية من مأكل وشراب ولكنها تمتد لتصبح نهج حياة ضروري لدفع ومواجهة مخاطر الحياة واعتداء المعتدين.
وفي النهاية تتدخل الأم لإنقاذ صغيرها قبل أن يلتهمه الثعبان.. وهو الدور الذي من المفترض على كل أم أن تقوم به تجاه أولادها مهما لعبت برؤوسهم القيم السلبية، فالرعاية الاجتماعية والاهتمام بالمشكلة والتجربة الحياتية قادرون معا على إعادتهم إلى الطريق الصواب كما حدث مع العصفور الصغير الذي خرج من تجربة المواجهة مع الثعبان بدرس لن ينساه أبدا كما لن ننساه نحن أيضا كبارا وأطفالا.
• " الدجاجة والبطة" و"ثورة الحصى" المقاومة كقيمة مطلقة:
الوقوف في وجه الظلم والغطرسة قيمة يحرص الكاتب على غرسها في قصتي "الدجاجة والبطة" و"ثورة الحصى".
والكاتب حريص أن يجعل قيمة المقاومة خيار ضروري يتوصل إليه الطفل مع الدجاجة الصغيرة في مواجهة البطة المتسلطة التي تداوم الاعتداء على الدجاجة في دخولها وخروجها من الحظيرة، بعد أن حاولت الدجاجة تفادي الاصطدام لكنها تكتشف أن عدم مقاومتها للبطة المتغطرسة سيؤدي إلى حرمانها من الأمان والبقاء في الحظيرة كباقي الدجاجات.
والكاتب يعي مع بطلة قصته أن المقاومة قرار وإرادة حتى وإن لم تتكافأ القوى كما في حالة الدجاجة الصغيرة والبطة المتغطرسة. يقول الكاتب: "لكن الدجاجة الصغيرة قررت أن تقف في وجهها وأن تجعلها تتوقف عما تفعله معها.. ولكن كيف؟!".
السؤال هنا موجه للقارئ قبل أن يكون موجها من الدجاجة لنفسها، ستكون الإجابة المفترضة "إذا توافرت الإرادة لا بد أن تتوفر الوسيلة لصاحب الحق". وتستخدم الدجاجة الحيلة (بودرة العفريت) فتعاني البطة المتغطرسة من الهرش ويطردها البط من الحظيرة بعد أن أقلقت راحته، حينها تشعر بالآلام التي كانت تعانيها الدجاجة، وهي لا تستطيع العودة إلى حظيرتها.. "وخطر في بالها ما كانت تفعله مع الدجاج، فقالت: يبدو أن هذا هو السبب!."
وعندما قررت الامتناع عن إيذاء الدجاج والوقوف أمام عتبة الحظيرة توقفت عن الهرش، لكن البط لم يستطع أن يدعوها إلى العودة للحظيرة وقامت بذلك دجاجة صغيرة امتلكت إرادة المقاومة فانتصرت على غطرسة القوة وامتلكت نبل الفرسان بالعفو عند المقدرة "فاقتربت منها وقالت في ود: عفا الله عما سلف.. أنت واحدة منا.. فلماذا لا تعودين إلى حظيرتنا؟!"
وإذا كانت المقاومة ضرورة لصد الاعتداء المباشر كما في قصة الدجاجة والبطة، فمقاومة الظلم عامة قيمة أكبر وأسمى كما هو الحال في قصة "ثورة الحصى".. فالأمير الظالم "تسلين" عندما يفكر في ترشيح نفسه ملكا يحدث اعتراض كبير وإن كان غير علني خوفا من الأمير الظالم تمثل في دق الأرض بالأقدام اعتراضا، ولأن الظلم آفة لا يقتصر ضررها على من توجه له مباشرة بل يضر بالمجتمع كله ويتأذى منه الجميع بما فيه حصى الأرض، ومقابل الأمير الظالم الذي يطمع أن يصبح ملكا، نجد أنفسنا أمام ملكة عادلة هي ملكة الحصى الحريصة على حماية شعبها ورعاياها من الظلم الذي لا بد أن يطالهم لو أصبح "تسلين" ملكا خاصة وأن اعتراض الناس بدقهم الأرض أصاب الحصى بأذى كبير.
ورغم أن الكاتب يقدم مبررا لثورة الحصى في بداية القصة، وتعدد وسائل المقاومة التي استخدمتها الحصاة إلا أننا نكتشف في نهاية القصة أن الحصى يصيبهم نفس الضرر مع تحقيق أهدافهم وتنازل الأمير عن سعيه لحكم المملكة.. "فرحت الحصى لهذا الخبر الذي سيرفع عن عاتقها ذلك الخطر الذي كان يتهددها.. لكن فرحتها لم تدم طويلا! فمع انتشار خبر تخلي (تسلين) عن الحكم.. كان الناس في أنحاء المملكة يفرحون ولا يجدون ما يعبرون به عن فرحتهم إلا دق الأرض".
فالنتيجة وإن كانت واحدة بالنسبة للحصى إلا أن قيمة مقاومة الظلم تستحق أن نعمل جميعا من أجلها.. "لكن الملكة ضحكت كثيرا ثم قالت: لا عليكم فلن يستمر هذا الوضع كثيرا، فلن تلبث فرحة الناس بذهاب تسلين أن تهدأ وحينها سيكفون عن دق رءوسكم.. وحتى إن لم يكفوا.. فأنا .. كفيلة .. بهم"
• "وردة وزهرة صبار", "العيد مبارك" التكيف مع المسلمات والحقائق الكبرى:
معالجة الموت والفراق من أصعب الموضوعات التي يمكن معالجتها وتقديمها للأطفال، لكن الكاتب نجح أن يحاول مع الطفل تفهم حقيقة الموت والفراق والتعامل معهما في قصتي "وردة وزهرة صبار", "العيد مبارك".
في القصة الأولى يخاطب الطفل أمه ويناجيها مناجاة تفيض بالشجن لحرص الطفل على الطاعة المطلقة لأمه ليسبب لها السعادة والراحة من خلال إرضائها والتأكيد على أنها نجحت في تعليمه وتربيته.. "لا تقلقي لا تدعي الخوف ينتابك، فأنا ابنك.. أنا ابنك، وقد علمتني ولن يذهب تعليمك هباء".
ويبدو التصرف الوحيد للسارد غير المتفق عليه مع أمه هو أن يروي الزهرة التي وضعها إلى جوار صورة أمه.. "ولكن هل تسمحين لي بأن أفعل شيئا واحدا أنهي به يومي؟ هل تسمحين؟.. تلك الوردة التي أضعها بجانب سريري أمام صورتك.. هل تسمحين لي بأن أرويها كل يوم قبل أن أنام؟! هل تسمحين يا أمي أن أفعل ذلك؟ هل تسمحين؟!".
أما العلاقة التي نشأت بين هشام وبين صديقه (الخروف صادق) والتي عشناها جميعا مع خروف العيد، ولم نتفهم في لحظتها مشاعر الفراق عند ذبح الأضحية بعد أن ربطتنا به صداقة وحب.. نفهمها مع الكاتب في قصته "العيد مبارك" حين تتجلى قيم العطاء وصلة الرحم والتضحية التي ارتبطت بالأضحية وما تسببه الأضحية من سعادة لآخرين. قيم برع الكاتب في تسريبها لنفس المتلقي دون تلقين مباشر منفر أو شعارات جوفاء وقدم منسكا من المناسك الإسلامية الهامة للطفل بحرفية يحسد عليها.
• "صرة البلح"، " العيد مبارك" وقيمة العطاء:
في قصتي "صرة البلح"، "العيد مبارك" يحرص الكاتب على تقديم قيمة العطاء للأطفال وأن للعطاء قيمة كبيرة الأثر حتى إن لم نكتشفها في حينها كما حدث مع خالد في قصة "صرة البلح" وضرورة أن تكون العطية تناسب المحتاج كما دار في ذهن خالد، الذي يكتشف في نهاية القصة أن نتيجة العطاء تظهر في نهاية اليوم في إشارة واضحة للثواب الذي يتلقاه المحسن عند الحساب.
أو كما اكتشف هشام في قصة "العيد المبارك" أثر العطية على المسكين وإدخال السعادة عليه وعلى أهله، وأثر الهدية على تعميق علاقات الأهل وتفتيت الجفوة بينهم. فهناك أثر مباشر وآخر غير مباشر يتمثل في الثواب الذي يناله المحسن جزاء إحسانه.
• "الحذاء الهراب" والوجه الآخر للحياة:
يتناص الكاتب في قصة "الحذاء الهراب" مع تراث الحكاية في قصة "حذاء الطنبوري" وكتبت أيضا ضمن "حكايات جحا" ولكن عكس الحكاية الأصلية بدلا من أن الشخص هو الذي يريد أن يتخلص من الحذاء، يحاول الحذاء هنا في قصة "الحذاء الهراب" أن يهرب من صاحبه بعد أن اشتكى من إصرار صاحبه على استخدامه ووزنه الثقيل. وكما في القصة التراثية كلما يحاول جحا أو الطنبوري التخلص من الحذاء يعيده أحدهم إليه، أيضا هنا كلما حاول الحذاء الهرب أعيد إلى صاحبه. ومع تكرار محاولات الهرب والعودة يكتشف الحذاء الهراب وجها ايجابيا لما رآه سلبيا طيلة القصة، أن صاحبه يفضله على كل إخوته من الأحذية فاستطاع التكيف مع حياته وبخاصة أن صاحبه شرع في إنقاص وزنه.
وتبدو قيمة نصوص المجموعة في أنها تتعامل مع الطفل دون تعال ككثير من النصوص الموجهة إليه ولا تعتمد على التلقين المباشر باعتبار أن الكبار وحدهم يمتلكون حقائق الحياة، رغم أننا جميعا نظل نتعلم دائما كما علمتنا نصوص المجموعة.
أيضا نجح الكاتب في أن يسرد قصص المجموعة في شكل فني يعتني بالحبكة ليشد إليه الطفل ويصل إلى عقله دون عوائق تقف أمام انسجامه مع العمل واستيعابه للأفكار التي تمرر من خلاله.
ونجح أن يحرك وجدان الطفل ويجعله يتعايش مع شخصيات العمل وأبطاله ويشاركهم في مواقفهم الإيجابية ويرفض ويستنكر المواقف السلبية المضادة.
كما نجح أن يبث مجموعة من القيم الإسلامية والأخلاقية والاجتماعية وتأكيد مفاهيم القيم السامية في نفس الطفل بصورة غير مباشرة لترسخ في وجدانه.
واستخدم الكاتب في معالجته أسلوبا سهلا يفيض بالحيوية ليشد انتباه الطفل ومتسقا يبعد عن التعقيد والغموض ويراعي الخواص السنية وما يرتبط بها من خواص نفسية لطفل المرحلة التي يتوجه إليها بكتابته. ومن خلال لغة فصيحة سليمة تخلو من الأخطاء وواضحة تخلو من الألفاظ المبهمة والغريبة، وإن حرصت على أن تنمي معجم الطفل وتضيف إليه وتعتني بالصورة التي تعلق بمخيلته.
ميدل ايست أونلاين-أحمد طوسون
مش أول مره يموت الواد ده
شهادة
أحمد طوسون
برفق أفتح الباب ، أنا المتوجس من الدخول الصعب إلى عالمك المنقوش بالحزن والأحلام بنات الحور .
مش أول مره يموت الواد ده
ولا دي كات آخر صوره اتلقطت له
بينزف بنى آدمين
وبيطوح بين الحيا والموت (1 )
سيارة مسعورة تعوي بأذني وتحف بملابسي التي لا تحميني من الصقيع ، أسمعك تردد :
من يومها وعلى نفس الأسفلت ليلاتي
بيرجع واحد
لابس جلابيه مخرمها الهوا دايرن داير
وحرامه الصوف ساتر راسه
شايل هم متلتل فوق أكتافه
وشايل عيش أولاده وماشي بيحلم بغموسهم
وارغفة العيش في إِيده
بترسم علامات استفهام
بتنقط
د
م (2)
هاجس ما أدار رقبتي ودفع بنظراتي إلى ناحيتك .
أتطلعك تفرد ضحكتك بمسافة العمر وتشير لي : ( تعال يا طوسون .. أُمَال فين قرني وعبد الباقي والزيني ) .
تصيبني رعدة .
أتراجع للخلف خطوات وأمسح عن ذاكرتي مشهد مهدي ومصطفى عبدالباقي وهما يقصان على أذاننا المخضبة بالدم تفاصيل الحادث .
أتفادى التعثر بوجه عبد العزيز بين الصفوف .
ارتمي كطفل صغير في حضن محمود عبدالمعطي وفي حضن الأصدقاء بحثا عن تضميد الجراح أو علنا نشتم نسيمك حاضرا فيخفف من الهم الذي لا تحتمله الصدور .
صورة البيت القديم ونحن نصعد سلمه الضيق ملتحفين بالمرارة لنطمئن على محسن رياض ونعود إلى المقهى الملاصق للسرادق الكبير نقايض الألم بالألم مع أصحابك والأصدقاء الذين جاؤوا من كل مكان بمصر وأقاليمها يبحثون عنك في ملامحنا التي استباحها الوجع .
أو أستعيدك بركن حميم بالماضي القريب يلتف حولك الأصدقاء من كل مكان في لحظات مداهمتك لهم بجعبتك الملأى بالحب والفرح والأحلام ، تغدق عليهم فينصتون لتقليدك للآخرين في نظم شعرهم فتفجر الضحكات والقفشات .
أو تختلي بنفسك بعيدا حتى لا يضبطك أحد متلبسا بالحزن الدفين داخلك ..
( أنا وحدي
باسافر ف العيون وارجع بصوت دايخ
وباكتب بس عن ضحكه .. بلون الورد منداسه
وعن بدر اتمسخ ف عيوني من مُدّه
وعن شمس ف طريق الليل بتنزف دمها البكري
وعن أراجوز بيترقص ف كل ميدان
وعن ضابط بدبورتين بيبدر قهره ع المخاليق
بتسرقني الليالي أتوه واسلم قلبي للضلمه فينبض آه
وبيزرني شيطاني ساعات ..
ويسمع مني ما يلاقينيش ) (3)
وحين ألاحقك ، تنفض بقايا الأسى وتتعلق بساعدي لتُسمعني آخر نكتة ، ثم نثرثر عن الثقافة والشعر والأحلام العريضة التي دائما ما تسبقنا بخطوات .
( _ ....... مالك ؟
_ أصل يا عبد المعطي ..
_ مش عاجبك المكان هنا .. تيجي نقعد ع القللي ) .
ضاعفت تطويقك بذراعيّ
لكن يا عبد المعطي مكانك الحقيقي في القصر .
تتصدر الطاولة المتآكلة عند حوافها تستقبل المحمومين بحمى الكتابة ، تشدهم إلى مكان خال بالطاولة التي تتسع دائما للمزيد ، تسكب الماء البارد على الكلمات القاسية كجمرة وعند الباب تنتظرهم بالأحضان الدافئة وتربت على ظهورهم وتلح عليهم ليعودوا كل ثلاثاء .
( هل نسيت يا عبد المعطي ، من أسبوع فقط كنت تحدثني عن السيناريو الذي تعمل به بفرح .
- سيبدأ التصوير قريبا .
- فرصة أمسك فيها بسنانك
- جت متأخرة حبتين
- المهم إنها جت )
تجرنا الخطوات إلى شوارع قديمة غطتها سحابات رمادية وغبار .
لكن يا عبد المعطي مكانك الحقيقي بين الأدباء .
تتصدر الطاولة المتآكلة عند حوافها وتضحك ضحكتك المعروفة بحب فيرتج القصر القديم الأيل للسقوط .
أنت وأشرف أبو جليل مكسب للحركة وحرام أن نخسر أحدكما .
تتفصد ملامحك غضبا وتقول أن المكان لا يتسع لكليكما بعد أن وصل الأمر إلى إهانة الأدباء بأشياء جارحة لا يمكن التغاضي عنها .
أحمد قرني يحاول أن يمتص غضبك ويذكرك بأن أشرف لا يجد مشكلة في التعامل معك ، المشكلة كما يقول في الأدعياء الذين لا علاقة لهم بالأدب .
الملتفون حول طاولتك بالشبان المسلمين ينكسون عيونهم بأكواب الليمون .
تنفث دخان اشتعالك وتقول إن أصغر عضو على طاولة النادي عندي أهم من أكبر أديب لا يحترم الأدباء .
ثم تنصاع لرغبة قرني بعقد جلسة مصالحة ببيت الثقافة بسنورس .
كانت ليلة طويلة يا عبد المعطي أريقت فيها وجوه وسقطت أقنعة وأطلت أفاعي صغيرة من جحورها ونفثت في الجرح سموما حتى لا يلتئم .
واتفقنا على أن نعمل جميعا على نجاح مؤتمر الفيوم الأدبي الأول وبعدها نجري انتخابات يحضرها كل الأدباء بالفيوم على بقاء أحدكما .
بالحب اختارك الأدباء ودس أشرف المرارة بحقائبه ورحل إلى القاهرة .
( - لسه فاكر ؟!
- ياااااه يا طوسون
أيام جرت بسرعة !!!
- أُمال نعمل إيه غير إننا ننبش الأيام ونصفيها
- سيب الأيام في حالها وتعال نسمع شعر
- قول يا عبد المعطي
....................................
( الليلة هارسم في القصيدة فراش
وارسم شجر ما عرفش معنى الخريف
وبيوت من الفضة وريحة النعناع
هادخل برجلي اليمين وأسمّي ع الآخر
أكتب حدود البنت في الحجلة ومرجحة الضفاير
وتسبيلة الشباك
وحلم رومانسي مُش ممسوخ
وحبل غسيل بيرقص فوق سطوح الجارة وينقط ..
عرق خالص
وجميزة في حُضن اتنين بتطرح للهوا الفوضى ...
ما يتاخروش
هارجّع صوت فؤاد حداد
غُنا فياض
واقول الله
أنا ابن الندى الأزلي
وابن الطمي والموال
ترابي شكل المعنى .. لآخر ضحكه مصريه
وعدَّى الشكل والمضمون
الليله
أحضاني براح مبسوط
وأحزاني تُراب واقع من الحواديت
أنا البسيط البسيط
دَوّبت في عيوني غموض الليل وبعترته
هَوى فتافيت .) (4 )
مؤتمر فندوة فأمسية .
ثم مؤتمر ومؤتمر ومؤتمر ..
ولقاءات لا تنتهي بساحة القللي .
نعيد تقييم الأيام التي مرت ونضعها في ميزان الحساب ، نختلف ونفترق إلى طريقين في صراع طويل حول آلية العمل الثقافي يشخصنه البعض باستخدام اتهامات أكبر من أن تحتملها قاعاتنا الدافئة دوما بالحب .
نتراشق بالكلمات الموجعة بصفحات الجرائد ويضبطنا المنتفعون أخر الليل بمقهى الحواتم نحتسي الشاي ونتبادل العتاب .
يصرخ أحدهم في وجهك :
- أنت بتقعد معاهم يا عبد المعطي .
تكتم غيظك ، تنفث دخانا مشتعلا بالقرف وتهمس بحنق :
- ابن ال................
هيحجر عليَّ .. أديتولهم الفرصة يستفردوا بيا ويفرضوا شروطهم عليَّ
حرام نخسر الحركة النشطة بعد ما صوتنا أتسمع في كل مكان .
نلقي معاهدات الصلح على الطاولة حتى لا نفقد الأصدقاء ونترك العمل الثقافي لمن يريد أن يستأثر به .
تغضب ، تقول إننا كنا دوما معا ، يهزك قرني ويقول إن الأهم علاقتنا الشخصية وسنكتفي بنشاطنا ببيت الثقافة بسنورس والأيام وحدها ستثبت لك الحقيقة .
لم تمر أشهر على تصالحنا وانقلب حلفاء الأمس القريب عليك .
مكانك بالطاولة أصبح مزعجا لهم ، همك الإبداع وهمهم ليس مكانه طاولة القصر ..
خلطوا ما بين السياسي والثقافي ، ولم يجدوا غير الاتهامات المجانية يلوكونها بألسنهم .
من منهم يا عبد المعطي استطاع أن يكتب ( الكلب المعجباني )(5 ) ؟!
في حلقك تنمو المرارة شجيراتٍ للأسى .. تطلب أن نتدخل حتى لا يتطور الصراع ونفقد النشاط بالقصر الذي سيتحول لساحة للقتال .
على أريكة خشبية بمدخل بيت العائلة نجلس .. يمر العابرون ويلقون بالتحايا .
- هي الفيوم كلها تعرفك يا عبد المعطي
- ما بقاش شاعر عاميه .. أنا واحد من الناس الطيبين دول .
في الموعد تجدنا كالعادة ، نضع آليات تحكم العمل بالقصر ..
بعد أن تطمئن على ديمومة العمل تقرر الانسحاب إلى القللي وتقدم رفيق الدرب محمد حسني ليصبح رئيسا للنادي وتكتفي بمكانك كشاعر يعرف الكبير والصغير قيمته على طاولة القصر .
- رايح فين ياعبد المعطي ؟
-( بادرني صوتك بالغياب
وأنا كنت لسه بابتدي أول حضوري ... فانطفيت
أمنت إن الشمس أسطورة
وإن الملايكة صوره ف البرواز
وإني ف عرض البحر متحاصر
وانا كنت شايل قلبي بكفوفي وفارد ضحكتي أمواج
وعرفت صوتك
لما صوت الناس فاجأني بالوجع ...
ماقدرتش أتأخر
بس افتكرت
ليه القصيدة شكلتنا ملمحين
نفس الشوارع لسه فاكره لنا الجنون والخوف
وهربت منّي .. سافر الايقاع
" العشق تعويذه
النيل عطش
شعر البنت تكعيبه ع الكتاف بتلم تعابين
الشوارع _ المسأله هزليه واحنا بنخاف
م الحكومه ونستخبى ف الهدوم _ ..
نشرة الأخبار ...
بتنقط فراولة بس احنا مش عارفين
البرد كاسي وش ست الحسن والنشره الجويه
مش كدابه "
الكوره دايره تنقسم نُصين
والشمس آخر صفحة ف الجرنال
نفس الشوارع لسه فاكرانا ...
بس بتقفّل بيبانها وتنتحر
بادرني صوتك بالغياب
ماقدرتش اخرج م القصيدة و
أ
م
و
ت (6 )
ـــــــــــــــ
1- مقطع من قصيدة ضحكته مفروده ع الآخر ص 117 _ ديوان ( صندوق روبابيكيا ) لمحمد عبد المعطي ، أصوات أدبية – هيئة قصور الثقافة طبعة أولى عام 2007
2- مقطع من قصيدة علامات استفهام ص 30 _ المصدر السابق
3- مقطع من قصيدة ما اعرفشي افتكرتك ليه ص 28_ ديوان ( بنت ما ولدتهاش ولاده ) لمحمد عبد المعطي ، سلسلة هدير – النشر الإقليمي طبعة أولى عام 2000
4- قصيدة ( الليله ) ص39 – المصدر السابق
5- ( الكلب المعجباني ) أغنية من تأليف الشاعر محمد عبدالمعطيي ، تلحين وغناء الفنان عهدي شاكر
6- قصيدة ( نفس الشوارع ) ص 35 – المصدر السابق
شهادة
أحمد طوسون
برفق أفتح الباب ، أنا المتوجس من الدخول الصعب إلى عالمك المنقوش بالحزن والأحلام بنات الحور .
مش أول مره يموت الواد ده
ولا دي كات آخر صوره اتلقطت له
بينزف بنى آدمين
وبيطوح بين الحيا والموت (1 )
سيارة مسعورة تعوي بأذني وتحف بملابسي التي لا تحميني من الصقيع ، أسمعك تردد :
من يومها وعلى نفس الأسفلت ليلاتي
بيرجع واحد
لابس جلابيه مخرمها الهوا دايرن داير
وحرامه الصوف ساتر راسه
شايل هم متلتل فوق أكتافه
وشايل عيش أولاده وماشي بيحلم بغموسهم
وارغفة العيش في إِيده
بترسم علامات استفهام
بتنقط
د
م (2)
هاجس ما أدار رقبتي ودفع بنظراتي إلى ناحيتك .
أتطلعك تفرد ضحكتك بمسافة العمر وتشير لي : ( تعال يا طوسون .. أُمَال فين قرني وعبد الباقي والزيني ) .
تصيبني رعدة .
أتراجع للخلف خطوات وأمسح عن ذاكرتي مشهد مهدي ومصطفى عبدالباقي وهما يقصان على أذاننا المخضبة بالدم تفاصيل الحادث .
أتفادى التعثر بوجه عبد العزيز بين الصفوف .
ارتمي كطفل صغير في حضن محمود عبدالمعطي وفي حضن الأصدقاء بحثا عن تضميد الجراح أو علنا نشتم نسيمك حاضرا فيخفف من الهم الذي لا تحتمله الصدور .
صورة البيت القديم ونحن نصعد سلمه الضيق ملتحفين بالمرارة لنطمئن على محسن رياض ونعود إلى المقهى الملاصق للسرادق الكبير نقايض الألم بالألم مع أصحابك والأصدقاء الذين جاؤوا من كل مكان بمصر وأقاليمها يبحثون عنك في ملامحنا التي استباحها الوجع .
أو أستعيدك بركن حميم بالماضي القريب يلتف حولك الأصدقاء من كل مكان في لحظات مداهمتك لهم بجعبتك الملأى بالحب والفرح والأحلام ، تغدق عليهم فينصتون لتقليدك للآخرين في نظم شعرهم فتفجر الضحكات والقفشات .
أو تختلي بنفسك بعيدا حتى لا يضبطك أحد متلبسا بالحزن الدفين داخلك ..
( أنا وحدي
باسافر ف العيون وارجع بصوت دايخ
وباكتب بس عن ضحكه .. بلون الورد منداسه
وعن بدر اتمسخ ف عيوني من مُدّه
وعن شمس ف طريق الليل بتنزف دمها البكري
وعن أراجوز بيترقص ف كل ميدان
وعن ضابط بدبورتين بيبدر قهره ع المخاليق
بتسرقني الليالي أتوه واسلم قلبي للضلمه فينبض آه
وبيزرني شيطاني ساعات ..
ويسمع مني ما يلاقينيش ) (3)
وحين ألاحقك ، تنفض بقايا الأسى وتتعلق بساعدي لتُسمعني آخر نكتة ، ثم نثرثر عن الثقافة والشعر والأحلام العريضة التي دائما ما تسبقنا بخطوات .
( _ ....... مالك ؟
_ أصل يا عبد المعطي ..
_ مش عاجبك المكان هنا .. تيجي نقعد ع القللي ) .
ضاعفت تطويقك بذراعيّ
لكن يا عبد المعطي مكانك الحقيقي في القصر .
تتصدر الطاولة المتآكلة عند حوافها تستقبل المحمومين بحمى الكتابة ، تشدهم إلى مكان خال بالطاولة التي تتسع دائما للمزيد ، تسكب الماء البارد على الكلمات القاسية كجمرة وعند الباب تنتظرهم بالأحضان الدافئة وتربت على ظهورهم وتلح عليهم ليعودوا كل ثلاثاء .
( هل نسيت يا عبد المعطي ، من أسبوع فقط كنت تحدثني عن السيناريو الذي تعمل به بفرح .
- سيبدأ التصوير قريبا .
- فرصة أمسك فيها بسنانك
- جت متأخرة حبتين
- المهم إنها جت )
تجرنا الخطوات إلى شوارع قديمة غطتها سحابات رمادية وغبار .
لكن يا عبد المعطي مكانك الحقيقي بين الأدباء .
تتصدر الطاولة المتآكلة عند حوافها وتضحك ضحكتك المعروفة بحب فيرتج القصر القديم الأيل للسقوط .
أنت وأشرف أبو جليل مكسب للحركة وحرام أن نخسر أحدكما .
تتفصد ملامحك غضبا وتقول أن المكان لا يتسع لكليكما بعد أن وصل الأمر إلى إهانة الأدباء بأشياء جارحة لا يمكن التغاضي عنها .
أحمد قرني يحاول أن يمتص غضبك ويذكرك بأن أشرف لا يجد مشكلة في التعامل معك ، المشكلة كما يقول في الأدعياء الذين لا علاقة لهم بالأدب .
الملتفون حول طاولتك بالشبان المسلمين ينكسون عيونهم بأكواب الليمون .
تنفث دخان اشتعالك وتقول إن أصغر عضو على طاولة النادي عندي أهم من أكبر أديب لا يحترم الأدباء .
ثم تنصاع لرغبة قرني بعقد جلسة مصالحة ببيت الثقافة بسنورس .
كانت ليلة طويلة يا عبد المعطي أريقت فيها وجوه وسقطت أقنعة وأطلت أفاعي صغيرة من جحورها ونفثت في الجرح سموما حتى لا يلتئم .
واتفقنا على أن نعمل جميعا على نجاح مؤتمر الفيوم الأدبي الأول وبعدها نجري انتخابات يحضرها كل الأدباء بالفيوم على بقاء أحدكما .
بالحب اختارك الأدباء ودس أشرف المرارة بحقائبه ورحل إلى القاهرة .
( - لسه فاكر ؟!
- ياااااه يا طوسون
أيام جرت بسرعة !!!
- أُمال نعمل إيه غير إننا ننبش الأيام ونصفيها
- سيب الأيام في حالها وتعال نسمع شعر
- قول يا عبد المعطي
....................................
( الليلة هارسم في القصيدة فراش
وارسم شجر ما عرفش معنى الخريف
وبيوت من الفضة وريحة النعناع
هادخل برجلي اليمين وأسمّي ع الآخر
أكتب حدود البنت في الحجلة ومرجحة الضفاير
وتسبيلة الشباك
وحلم رومانسي مُش ممسوخ
وحبل غسيل بيرقص فوق سطوح الجارة وينقط ..
عرق خالص
وجميزة في حُضن اتنين بتطرح للهوا الفوضى ...
ما يتاخروش
هارجّع صوت فؤاد حداد
غُنا فياض
واقول الله
أنا ابن الندى الأزلي
وابن الطمي والموال
ترابي شكل المعنى .. لآخر ضحكه مصريه
وعدَّى الشكل والمضمون
الليله
أحضاني براح مبسوط
وأحزاني تُراب واقع من الحواديت
أنا البسيط البسيط
دَوّبت في عيوني غموض الليل وبعترته
هَوى فتافيت .) (4 )
مؤتمر فندوة فأمسية .
ثم مؤتمر ومؤتمر ومؤتمر ..
ولقاءات لا تنتهي بساحة القللي .
نعيد تقييم الأيام التي مرت ونضعها في ميزان الحساب ، نختلف ونفترق إلى طريقين في صراع طويل حول آلية العمل الثقافي يشخصنه البعض باستخدام اتهامات أكبر من أن تحتملها قاعاتنا الدافئة دوما بالحب .
نتراشق بالكلمات الموجعة بصفحات الجرائد ويضبطنا المنتفعون أخر الليل بمقهى الحواتم نحتسي الشاي ونتبادل العتاب .
يصرخ أحدهم في وجهك :
- أنت بتقعد معاهم يا عبد المعطي .
تكتم غيظك ، تنفث دخانا مشتعلا بالقرف وتهمس بحنق :
- ابن ال................
هيحجر عليَّ .. أديتولهم الفرصة يستفردوا بيا ويفرضوا شروطهم عليَّ
حرام نخسر الحركة النشطة بعد ما صوتنا أتسمع في كل مكان .
نلقي معاهدات الصلح على الطاولة حتى لا نفقد الأصدقاء ونترك العمل الثقافي لمن يريد أن يستأثر به .
تغضب ، تقول إننا كنا دوما معا ، يهزك قرني ويقول إن الأهم علاقتنا الشخصية وسنكتفي بنشاطنا ببيت الثقافة بسنورس والأيام وحدها ستثبت لك الحقيقة .
لم تمر أشهر على تصالحنا وانقلب حلفاء الأمس القريب عليك .
مكانك بالطاولة أصبح مزعجا لهم ، همك الإبداع وهمهم ليس مكانه طاولة القصر ..
خلطوا ما بين السياسي والثقافي ، ولم يجدوا غير الاتهامات المجانية يلوكونها بألسنهم .
من منهم يا عبد المعطي استطاع أن يكتب ( الكلب المعجباني )(5 ) ؟!
في حلقك تنمو المرارة شجيراتٍ للأسى .. تطلب أن نتدخل حتى لا يتطور الصراع ونفقد النشاط بالقصر الذي سيتحول لساحة للقتال .
على أريكة خشبية بمدخل بيت العائلة نجلس .. يمر العابرون ويلقون بالتحايا .
- هي الفيوم كلها تعرفك يا عبد المعطي
- ما بقاش شاعر عاميه .. أنا واحد من الناس الطيبين دول .
في الموعد تجدنا كالعادة ، نضع آليات تحكم العمل بالقصر ..
بعد أن تطمئن على ديمومة العمل تقرر الانسحاب إلى القللي وتقدم رفيق الدرب محمد حسني ليصبح رئيسا للنادي وتكتفي بمكانك كشاعر يعرف الكبير والصغير قيمته على طاولة القصر .
- رايح فين ياعبد المعطي ؟
-( بادرني صوتك بالغياب
وأنا كنت لسه بابتدي أول حضوري ... فانطفيت
أمنت إن الشمس أسطورة
وإن الملايكة صوره ف البرواز
وإني ف عرض البحر متحاصر
وانا كنت شايل قلبي بكفوفي وفارد ضحكتي أمواج
وعرفت صوتك
لما صوت الناس فاجأني بالوجع ...
ماقدرتش أتأخر
بس افتكرت
ليه القصيدة شكلتنا ملمحين
نفس الشوارع لسه فاكره لنا الجنون والخوف
وهربت منّي .. سافر الايقاع
" العشق تعويذه
النيل عطش
شعر البنت تكعيبه ع الكتاف بتلم تعابين
الشوارع _ المسأله هزليه واحنا بنخاف
م الحكومه ونستخبى ف الهدوم _ ..
نشرة الأخبار ...
بتنقط فراولة بس احنا مش عارفين
البرد كاسي وش ست الحسن والنشره الجويه
مش كدابه "
الكوره دايره تنقسم نُصين
والشمس آخر صفحة ف الجرنال
نفس الشوارع لسه فاكرانا ...
بس بتقفّل بيبانها وتنتحر
بادرني صوتك بالغياب
ماقدرتش اخرج م القصيدة و
أ
م
و
ت (6 )
ـــــــــــــــ
1- مقطع من قصيدة ضحكته مفروده ع الآخر ص 117 _ ديوان ( صندوق روبابيكيا ) لمحمد عبد المعطي ، أصوات أدبية – هيئة قصور الثقافة طبعة أولى عام 2007
2- مقطع من قصيدة علامات استفهام ص 30 _ المصدر السابق
3- مقطع من قصيدة ما اعرفشي افتكرتك ليه ص 28_ ديوان ( بنت ما ولدتهاش ولاده ) لمحمد عبد المعطي ، سلسلة هدير – النشر الإقليمي طبعة أولى عام 2000
4- قصيدة ( الليله ) ص39 – المصدر السابق
5- ( الكلب المعجباني ) أغنية من تأليف الشاعر محمد عبدالمعطيي ، تلحين وغناء الفنان عهدي شاكر
6- قصيدة ( نفس الشوارع ) ص 35 – المصدر السابق
الطريق إلى القللي
أحمد طوسون
مقهى المثقفين فكرة تطارد الكاتب منذ تشكل وعيه وثقافته ، بمجرد أن يقرأ عن مقاهي المثقفين في العاصمة التي يقصدها كبار الكتاب والمفكرين وتجتذب حاملي حقائب السفر من الأدباء الذين يحلمون بمكان تحت شمس العاصمة وأنوارها ، وتصبح أسماء مثل ريش والفيشاوي ومتاتيا وايزوفيتش والأوبرا والجريون والبستان واسترا وغيرها أسماءً لصيقة بروادها الذين صنعوا شهرتها وأدخلوها ذاكرة الكتابة بداية من نجيب محفوظ ، مرورا بصلاح عبدالصبور وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله والغيطاني وليس انتهاءً عند جيل بعينه ولا تخص كتابة بعينها .
لكن القللي لم يختارها المثقفون بالفيوم بل هي التي اختارتهم .
اختارت لنفسها موقعا بالقرب من محطات السفر سواء محطة القطار ذات الطراز الإنجليزي العتيق أو مواقف السيارات التي يحرص كل محافظ جديد على تغيير أماكنها ، لكنها تظل في متناول القللي وبخاصة لمن يعرفها .
ثم بنداءٍ خفي اجتذبت إلى جوارها قصر الثقافة من مكانه القديم بشارع البوستة إلى مكانه الحالي بمبناه الهائل وهرمه المقلوب .
ربما لهذا السبب أحببنا القللي أكثر ، لأنها عفوية وبسيطة ولا تحب مساحيق التجميل ، ربما لأننا تربينا بقصر الثقافة القديم بقشور طلائه وحوائطه المتآكلة ، ببساطته وحميميته ولم نعتد على الفخامة التي يتحلى بها القصر الجديد .
في اعتقادي أن القللي هي التي اجتذبت المرحوم عبد المعطي ورفاقه كما اجتذبتنا من ضواحي الفيوم ، هي التي اختارتنا ولم يختارها أحد .
والقللي كغيرها من المقاهي أحد الأماكن المحدودة التي تجمع عادة بين صنوف البشر باختلاف طبقاتهم وأفكارهم ، حتى وإن اشتهرت بكونها مقهى للمثقفين .
فهي تعبير عن المجتمع ، تتيح لمرتاديها رصد الحياة والناس وأفكارهم والالتقاء ما بين الأصدقاء والفرقاء ، تشهد الأفراح والأطراح والأوجاع ، وتتشكل بين طاولاتها الأحلام وتطير كأسراب حمام في السماء .
لا أتذكر بالضبط أول مرة حملتني قدماي إلى هناك ، أصبحت الذاكرة ملأى بالسنين وسحب الدخان التي تحجب التفاصيل ، لكني اعتقد أن التأريخ لا يهم كثيرا .
القللي شهدت لقاءاتنا لنعد لمؤتمرات الفيوم واحدا بعد الآخر ، نستقبل ضيوفنا وأصدقاءنا من أدباء العاصمة والأقاليم ، تفتح لهم حضنها الواسع وتزرع فيهم نبتتها الساحرة التي تجعلهم يعودون إليها من جديد .
شهدت نجاحاتنا مؤتمرا بعد آخر ، شهدت إصداراتنا تولد بين يديها فتتلقفها بفرح وتحوطها بالعناية والحب .
شاركتنا بأمسيات أدبية بين طاولاتها ، وشاركتنا فجيعتنا في شهداء بني سويفثم شهدت أول عروض فرقة الفيوم المسرحية بعد الحادث والذي أهدته لأرواح شهداء حادث قصر الثقافة بعنوان ( أخر الشارع )بساحة المقهى في تجربة طالب رئيس الهيئة بتعميمها في باقي الأقاليم .
شهدت انقساماتنا وخلافاتنا وشهدت توافقنا من جديد ، شهدت الذين غابوا يعودون إليها بنفس الحب ونادت من هجروها بقسوة ليعودوا إلى مقاعدها من جديد .
كل ما أستطيع أن أقوله إن كل خطوة أخطوها بمحاذاة بحريوسف وباعة الترمس وسائقي الحنطور - الذين يختفون من الشوارع والميادين يوما بعد آخر - في الطريق إلى القللي تجعلنيأقترب أكثر من أشيائي الأليفة التي فقدتها مع دوران الزمن.
اتخذ مقعدا بين الأصدقاء وأشاركهم الضجيج والغبار والدخان والقرف وابحث عن وجه محمد عبد المعطي في وجوه أصدقائي فأجده يطل من عيونهم بنفس المرح .
المقهى يتسع لما تضيق به المؤسسة من أفكار أو رؤى أو اختلاف .
لو عرفت الحكومات طريق المقهى لعرفت البشر وعرفت مشاكلهم وحلولها ، لكننا لم نر أبدا حكومة تحتسي الشاي بمقعد على رصيف القللي وتدخن النرجيلة وتلعب الطاولة وحين تنهزم تدفع الحساب .
أحمد طوسون
مقهى المثقفين فكرة تطارد الكاتب منذ تشكل وعيه وثقافته ، بمجرد أن يقرأ عن مقاهي المثقفين في العاصمة التي يقصدها كبار الكتاب والمفكرين وتجتذب حاملي حقائب السفر من الأدباء الذين يحلمون بمكان تحت شمس العاصمة وأنوارها ، وتصبح أسماء مثل ريش والفيشاوي ومتاتيا وايزوفيتش والأوبرا والجريون والبستان واسترا وغيرها أسماءً لصيقة بروادها الذين صنعوا شهرتها وأدخلوها ذاكرة الكتابة بداية من نجيب محفوظ ، مرورا بصلاح عبدالصبور وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله والغيطاني وليس انتهاءً عند جيل بعينه ولا تخص كتابة بعينها .
لكن القللي لم يختارها المثقفون بالفيوم بل هي التي اختارتهم .
اختارت لنفسها موقعا بالقرب من محطات السفر سواء محطة القطار ذات الطراز الإنجليزي العتيق أو مواقف السيارات التي يحرص كل محافظ جديد على تغيير أماكنها ، لكنها تظل في متناول القللي وبخاصة لمن يعرفها .
ثم بنداءٍ خفي اجتذبت إلى جوارها قصر الثقافة من مكانه القديم بشارع البوستة إلى مكانه الحالي بمبناه الهائل وهرمه المقلوب .
ربما لهذا السبب أحببنا القللي أكثر ، لأنها عفوية وبسيطة ولا تحب مساحيق التجميل ، ربما لأننا تربينا بقصر الثقافة القديم بقشور طلائه وحوائطه المتآكلة ، ببساطته وحميميته ولم نعتد على الفخامة التي يتحلى بها القصر الجديد .
في اعتقادي أن القللي هي التي اجتذبت المرحوم عبد المعطي ورفاقه كما اجتذبتنا من ضواحي الفيوم ، هي التي اختارتنا ولم يختارها أحد .
والقللي كغيرها من المقاهي أحد الأماكن المحدودة التي تجمع عادة بين صنوف البشر باختلاف طبقاتهم وأفكارهم ، حتى وإن اشتهرت بكونها مقهى للمثقفين .
فهي تعبير عن المجتمع ، تتيح لمرتاديها رصد الحياة والناس وأفكارهم والالتقاء ما بين الأصدقاء والفرقاء ، تشهد الأفراح والأطراح والأوجاع ، وتتشكل بين طاولاتها الأحلام وتطير كأسراب حمام في السماء .
لا أتذكر بالضبط أول مرة حملتني قدماي إلى هناك ، أصبحت الذاكرة ملأى بالسنين وسحب الدخان التي تحجب التفاصيل ، لكني اعتقد أن التأريخ لا يهم كثيرا .
القللي شهدت لقاءاتنا لنعد لمؤتمرات الفيوم واحدا بعد الآخر ، نستقبل ضيوفنا وأصدقاءنا من أدباء العاصمة والأقاليم ، تفتح لهم حضنها الواسع وتزرع فيهم نبتتها الساحرة التي تجعلهم يعودون إليها من جديد .
شهدت نجاحاتنا مؤتمرا بعد آخر ، شهدت إصداراتنا تولد بين يديها فتتلقفها بفرح وتحوطها بالعناية والحب .
شاركتنا بأمسيات أدبية بين طاولاتها ، وشاركتنا فجيعتنا في شهداء بني سويفثم شهدت أول عروض فرقة الفيوم المسرحية بعد الحادث والذي أهدته لأرواح شهداء حادث قصر الثقافة بعنوان ( أخر الشارع )بساحة المقهى في تجربة طالب رئيس الهيئة بتعميمها في باقي الأقاليم .
شهدت انقساماتنا وخلافاتنا وشهدت توافقنا من جديد ، شهدت الذين غابوا يعودون إليها بنفس الحب ونادت من هجروها بقسوة ليعودوا إلى مقاعدها من جديد .
كل ما أستطيع أن أقوله إن كل خطوة أخطوها بمحاذاة بحريوسف وباعة الترمس وسائقي الحنطور - الذين يختفون من الشوارع والميادين يوما بعد آخر - في الطريق إلى القللي تجعلنيأقترب أكثر من أشيائي الأليفة التي فقدتها مع دوران الزمن.
اتخذ مقعدا بين الأصدقاء وأشاركهم الضجيج والغبار والدخان والقرف وابحث عن وجه محمد عبد المعطي في وجوه أصدقائي فأجده يطل من عيونهم بنفس المرح .
المقهى يتسع لما تضيق به المؤسسة من أفكار أو رؤى أو اختلاف .
لو عرفت الحكومات طريق المقهى لعرفت البشر وعرفت مشاكلهم وحلولها ، لكننا لم نر أبدا حكومة تحتسي الشاي بمقعد على رصيف القللي وتدخن النرجيلة وتلعب الطاولة وحين تنهزم تدفع الحساب .