بيضةُ الدّجاجاتِ والطّواويس
القصة من المجموعة الفائزة في المسابقة الأدبية لقصور الثقافةللعام 1998 / 1999
أحمد طوسون
لا بد أن نتعاون حتى يتحقق الهدف :
كانت الأرض الجديدة تحتاج إلى الكثير من الجهد والعمل لاستصلاحها وزراعتها ، ولم يستطع أحد أن يزرع أرضه بمفرده ، فاجتمعت الحيوانات مع الطيور وقرروا أن يتعاونوا معاً لاستصلاح الأرض وزراعتها وقاموا إلى العمل فرحين يغنون . شقوا الترع و حفروا آبار المياه والجداول التي سيتدفق إليها النهر الجديد ، و رصفوا الطرق، وزرعوا الأشجار على جانبيها، وبنوا المدارس والمستشفيات والمصانع و أنشئوا الحدائق ليستمتعوا بقضاء أجازاتهم بين أزهارها الجميلة واتفقوا أن يظل التعاون بينهم حتى تصبح الصحراء جنة خضراء .
حكاية بطـة كسـولـة:
ظل الجميع يعمل بجد ونشاط سعيدين بالأرض الجديدة، إلا بطة كسولة ، كانت لا تحب العمل وحظيرة البط كبيرة وأرضها شاسعة ، والبط يعمل ويبنى في حظيرته ويحرث الأرض ويبذر البذور ولا يجد وقتاً للراحة واللعب .البطة الكسولة قالت في نفسها ( العمل يحتاج إلى جهد وتعب وأنا لا أحب العمل ).
فكرت البطة الكسولة وقالت : ( واك .. واك ، سأترك الحظيرة وأعيش بمفردي فلا يطلب منى أحد العمل أو مساعدة أحد ) .
وتركت البطة الكسولة الحظيرة ومشت في الصحراء حتى شعرت بالتعب والجوع .
من بعيد رأت شجرة كبيرة كثيفة الأوراق ، فقالت : ( سأذهب وأرتاح تحت ظل الشجرة وآكل من ورقها الأخضر).
تعجبت الشجرة حين رأت البطة ، فالشجرة تعرف أن الحيوانات والطيور يعملون في تعمير الصحراء وزراعتها .. سألت الشجرة البطة:
- لماذا تتركين عملك يا بطة ؟
قالت البطة :
- أنا لا أحب العمل، و جئت لأستريح تحت ظلك وآكل من ورقك الأخضر حتى أشبع
غضبت الشجرة من البطة وقالت :
- العمل واجب على كل حيوان وطائر وأنا لا أستطيع أن أعطيك أوراقي الخضراء لتأكليها , فصاحبي الفلاح تعب في زراعتي ليستظل تحت أوراقي ولأحمي زرعه من الرياح والرمال .
أنا أحب عملي ، وأحب أن أقوم به على أحسن وجه .
رفعت الشجرة أوراقها عاليا وقالت:
• لن أعطى ورقي الأخضر اللذيذ لبطة كسولة لا تحب العمل .
تركت البطة الشجرة الكبيرة ومشت جائعة حتى وصلت إلى حقل برسيم أخضر , نظرت البطة من حولها فلم تجد أحداً , فرحت البطة وقالت : ( برسيم كثير , سآكل حتى أشبع دون تعب أو عمل).
تسللت البطة إلى الحقل وبمنقارها أخذت تلتقط أعواد البرسيم اللذيذة , رأى صاحب الحقل البطة الكسولة تأكل البرسيم من حقله , غضب صاحب الحقل من البطة وأمسك عصا وجرى ناحية البطة وضربها وهو يقول:
- ابتعدي أيتها الكسولة عن حقلي الذي تعبت في زراعته لتأكل منه حيواناتي وطيوري التي تعمل وتتعب .
جرت البطة هاربة وهى تصرخ وتصيح من الألم :
- واك .. واك .. واك .. واك
سمعت الحيوانات والطيور بما كان من البطة الكسولة وصاحب الحقل وغضبوا من البطة التي تريد أن تأخذ برسيم غيرها و قرروا أن يقاطعوا البطة الكسولة.
البطة الكسولة تضع بيضة جميلة :
ظلت البطة تدق أبواب الحظائر لتستريح عند أحد الطيور أو الحيوانات من التعب ومن الشمس الساخنة , لكن الحيوانات والطيور رفضوا أن يفتحوا لها الأبواب لتستريح وقالوا لها :
- اذهبي بعيداً أيتها البطة السارقة
أحست البطة أنها أخطأت حين حاولت أن تأكل من أرض ليست ملكها ودون أن تستأذن صاحبها، لكنها لم تفكر في الاعتذار لصاحب الحقل .
شعرت البطة بالتعب في الطريق ولم تستطع المشي .. جلست تستريح بمكان خال بجوار حظيرة الدجاج وحظيرة الطاووس , وأثناء جلوس البطة الكسولة وضعت بيضة ,فرحت البطة الكسولة بالبيضة وقالت :
- واك .. واك بيضة جميلة سأرقد فوقها حتى تفقس بطة صغيرة جميلة .
كانت الشمس تستعد للرحيل ليأتي الليل ويستلم عمله , فكرت البطة وقالت إذا أتى الليل وأنا في هذا المكان الخالي سأموت من البرد , وقررت البطة أن تذهب وتبحث عن غطاء لتدفأ به وتجمع بعض القش لتضعه تحت بيضتها.
الديك الشركسي والطاووس يعثران على بيضه :
كان الديك الشركسي ملك حظيرة الدجاج يمشى في الحظيرة ويطمئن على أحوال الدجاج والدجاج يعمل سعيداً بهمة ونشاط . وبينما الديك يسير في الحظيرة شاهد من بعيد بيضه البطة بجوار حظيرة الدجاج ، فقال في نفسه ( لابد أن واحدة من الدجاجات وضعت البيضة أثناء عودتها من الحقل ونسيت أن تدخلها إلى الحظيرة ) .
ذهب الديك ناحية البيضة ليحملها ويدخلها إلى حظيرة الدجاج .
وكان الطاووس يمشى مختالا بريشه الملون الجميل ويطمئن على أحوال حظيرته ونظافتها ويجمع الريش الملقى على الأرض ويضعه في صندوق القمامة لتظل حظيرته نظيفة وجميلة .
وبينما الطاووس يعمل ويغنى , شاهد من بعيد بيضة البطة بجوار حظيرته فقال لنفسه : ( لابد أن واحدة من إناث الطاووس وضعت البيضة أثناء عودتها من العمل ونسيت أن تدخلها إلى الحظيرة ) .
ذهب الطاووس ناحية البيضة ليحملها ويدخلها إلى حظيرته , مشى الطاووس مزهوا بنفسه حتى وصل إلى البيضة ،وهناك وجد الديك الشركسي يحاول أن يأخذ البيضة إلى حظيرة الدجاج , أسرع الطاووس ناحية الديك وصاح :
- ماذا تفعل يا ديك , أتأخذ بيضتي إلى حظيرتك ؟؟
أمسك الديك بالبيضة وقال :
- إنها بيضتي أنا , وقد وضعتها واحدة من الدجاجات .
أخذ الطاووس البيضة من الديك الشركسي وقال :
- إنها بيضة كبيرة , أكبر من بيض الدجاج !
مد الديك الشركسي يده وأخذ البيضة من الطاووس وقال :
- أنظر جيداً يا طاووس, إن بيض الطاووس كبير وهذه بيضة صغيرة، أصغر من بيض الطاووس.
نظر الطاووس إلى البيضة فوجدها أصغر من بيض الطاووس وأكبر من بيض الدجاج قال الطاووس للديك :
- إننا جيران ولا نريد أن نختلف , وواجب على الجار أن يحب جاره ويعامله معاملة حسنة, فإذا كانت البيضة بيضة دجاجة ستأخذها ، وإذا كانت بيضة أنثى الطاووس آخذها أنا ..
قال الديك وقد أعجبه كلام الطاووس :
- معك حق يا طاووس ولكن كيف نعرف إذا ما كانت بيضة دجاج أم بيضة أنثى طاووس ؟
فكر الطاووس ثم قال :
- ما رأيك أن نحكم أول قادم علينا ليرى إذا ما كانت بيضة دجاج أم بيضة طاووس.
قال الديك مرحباً :
- فكرة جميلة يا طاووس
- اتفقنا ..
- اتفقنا .
حمامة وديعة تحكم بينهما :
كانت الحمامة الوديعة عائدة من عملها فوجدت الطاووس والديك يقفان بجوار البيضة ، سلمت الحمامة عليهما وسألتهما عن أحوالهما, فشكراها على سؤالها وحكيا لها حكاية البيضة وطلبا منها أن تحكم بينهما .
نظرت الحمامة إلى البيضة فوجدتها أكبر من بيض الدجاج وأصغر من بيض الطاووس , ولم تعرف الحمامة ماذا تفعل ولكنها بعد أن فكرت قالت لهما :
- لا يجب أن نختلف يا أصدقاء , عندي فكرة جميلة.
- ما هي يا حمامة ؟؟
قالت الحمامة :
- ما رأيكما أن نبنى عشا جميلا ونضع فيه البيضة،وترقد الدجاجات فوقها يوما وترقد إناث الطاووس فوقها يوما حتى تفقس، وحينها سنعرف إذا كان الفرخ ديكا صغيرا أم طاووساً جميلاً.
أعجبت فكرة الحمامة الذكية الديك الشركسي والطاووس وقالا :
- فكرة جميلة يا حمامة
البطة الكسولة تبحث عن بيضتها :
بينما كان الديك الشركسي والطاووس يبنيان عشا صغيرا للبيضة ، والحمامة تساعدهما وتحضر لهما ما يحتاجانه من قش وأوراق شجر، كانت البطة الكسولة تبحث عن غطاء لتتدفأ به وحل عليها الليل والظلام حتى ضلت الطريق في الصحراء الواسعة ، لأنها لم تضع علامات تسترشد بها في طريق عودتها ، وكانت كلما مشت ابتعدت أكثر عن بيضتها حتى سقطت في بئر لم تره بسبب الظلام وظلت تصرخ وتستغيث :
- واك . . واك
أغيثوني . . أغيثوني
ولم يسمعها أحد سوى ضفدع كان يسكن بالقرب من البئر ،أسرع الضفدع وألقى إليها حبلاً أمسكت به حتى خرجت من البئر وقالت للضفدع :
- شكراً لك أيها الضفدع الطيب لقد أنقذت حياتي
قال الضفدع الطيب :
- لا شكر على واجب يا بطه من الواجب علينا أن نقدم المساعدة لمن يحتاجها .
وقدم الضفدع الطيب طعاماً للبطة وأعد لها مكاناً لتنام فيه حتى الصباح ، وفى الصباح شكرته البطة على ما قدمه لها وتركته لتبحث عن بيضتها وهى تقول لنفسها : ( لقد أخطأت يا بطة حين تركت حظيرتك وعملك وكان جزاؤك أن تضيع بيضتك الجميلة وأخطأت حين أخذت طعام غيرك دون استئذان ) .
ندمت البطة على كسلها الذي سبب المشاكل لها وقررت أن تصلح من نفسها وفكرت أن أول شيء يجب أن تقوم به أن تعتذر لصاحب الحقل وبعد أن قبل اعتذارها ذهبت البطة لتبحث عن بيضتها حتى وصلت إلي المكان الذي تركتها فيه فلم تجد بيضتها في مكانها بعد أن بنى لها الديك والطاووس والحمامة عشاً جميلاً ونقلوها إليه ، حزنت البطة وخافت أن تكون الغربان والفئران أكلوا بيضتها ، صاحت البطة الحزينة:
- واك . . واك
أين أنت يا بيضتي ؟؟ ..
مشت البطة تبكى وتبحث عن بيضتها حتى قابلت المعزة الطيبة وحكت لها ما حدث لبيضتها وسألتها إن كانت رأتها ،قالت المعزة الطيبة :
- ماء . . ماء . .
إنني لم أر بيضاً هنا ، ولكني سأبحث معك يا بطة.
مر يوم أو أكثر وهما يبحثان في البلاد الجديدة حتى قابلا الأرنب فسألته البطة عن بيضتها فقال إنه لم يرها ، وخرج يبحث معهما يوماً أو أكثر حتى قابلوا الكلب فخرج معهم ليبحثوا عن البيضة ، وكلما قابلوا حيواناً أو طائراً خرج ليساعدهم في البحث عن البيضة .
البيضة تفقس بطـة صغيرة :
تناوبت إناث الطواويس والدجاجات الرقاد فوق البيضة ، والحمامة تمر عليهم كل يوم بعد عودتها من العمل لتطمئن على البيضة حتى فقست وخرجت منها بطة صغيرة صوتها جميل تقول :
- صو . . صو ، صو . . صو
فرح الدجاج والطاووس والحمام بالبطة الصغيرة وأحضروا لها الحبوب حتى تـأكل والماء حتى تشرب لتكبر وتلعب مع صغار الدجاج و الطواويس والحمام .
وبينما الحمامة عائدة إلى بيتها قابلت في طريقها المعزة والكلب والأرنب والبطة يمشون بين الحظائر ويبحثون بين الرمال ، فسألتهم الحمامة عما يبحثون عنه وعما إذا كانت تستطيع مساعدتهم .
حكى الأرنب للحمامة حكاية البطة الكسولة والبيضة التي تركتها وحدها وعادت فلم تجدها ، أسرعت الحمامة الوديعة وحكت للطيور والحيوانات حكاية البيضة التي فقست بطة صغيرة جميلة واصطحبتهم إلى عش البطة الصغيرة.فرحت البطة الكسولة بالبطة الصغيرة وعودتها إليهاوعرفت البطة إنها كانت ستفقد بطتها لأنها تركت حظيرتها وعملها وكانت بطة كسولة لا تحب أن تساعد أحداً وعاهدت نفسها أن تصبح بطة نشيطة تعمل وتجتهد وتبنى وتزرع مع باقي الحيوانات والطيور .شكرت البطة الديك والطاووس على ما قدماه لبطتها وشكرت باقي الحيوانات والطيور على مساعدتها واحتفلوا جميعاً بالبطة الصغيرة وعاشت الطيور والحيوانات في حب وسلام وعملوا بكد ونشاط حتى تصبح الصحراء جنة خضراء .
حكاية صاحب الغزلان
( عن قصة حي بن يقظان لابن طفيل )
قصة للأطفال من 6- 10 سنوات
القصة الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي
أحمد محمد طوسون
لملمت الشمس أشعتها الشاحبة ورحلت بعيدا وانتظرت الحيوانات الأليفة حتى زار الليل الغابة وألقي ستارة الظلام عليها ومرت أصابعه على الجفون أغمضتها، فغرقت الوحوش والسباع في نوم عميق.
تحسست الحيوانات طريقها وسط الغابة وسارت على أطراف أقدامها وحوافرها حتى لا تشعر بها ملكة الغربان الشريرة وصديقها الذئب.
وصلت الحيوانات إلي شاطى البحر دون أن يشعر بها أحد.. صعدت الحيوانات والطيور إلى مركبهم كي يهاجروا إلى الجزيرة المهجورة التي أرشدتهم إليها الحمامة الوديعة ليعيشوا في سلام بعيدا عن شر ملكة الغربان وصديقها الذئب.
ظلت ملكة الغربان نائمة حتى لسعتها أشعة الشمس الذهبية فاستيقظت متعجبة أنها نامت حتى سخنت أشعة الشمس ولسعتها، ولم تسمع الديك ذا العرف الأحمر الكبير يصيح كعادته مع أول ضوء للشمس: (كوكو.. كوكو ).. قالت ملكة الغربان لنفسها:
ـ لِمَ لمْ يصح الديك اليوم كعادته ويوقظني؟!
وقررت أن تذهب لتعرف السبب بنفسها، لكنها لم تجد الديك، كما لم تجد أحدا من الطيور أو الحيوانات الأليفة في الغابة.
غضبت ملكة الغربان وثارت.. ظلت تحدث نفسها وتقول:
ـ أين ذهبت الحيوانات والطيور الضعيفة والمسالمة؟!
ـ لابد أنهم وجدوا مكانا آمنا اختبأوا فيه....
ـ وأين وجدوا هذا المكان ؟!
ـ سأبحث عنه.. لن أترك مكانا في الغابة حتى أجدهم..
بينما ترقرقت أمواج البحر وادعة هادئة حتى وصل مركب الحيوانات الأليفة إلى الجزيرة الآمنة.
غردت الطيور وضربت الفضاء بأجنحتها وهللت الحيوانات ورفعت أقدامها سرورا.. رقصوا وغنوا فرحا بجزيرتهم الجديدة.. ماعدا الظبية الطيبة.. كانت حزينة على وليدها الذي سقط من المركب أثناء رحلتهم في البحر الكبير.. بقيت الظبية الحزينة عند الشاطئ تراقب الموجات الصغيرة وتبكي على وليدها الذي فقدته.. تردد في أذنيها أنين قادم من ناحية البحر.. انفطر قلب الظبية حين سمعت الأنين وقالت لنفسها:
ـ أنصتي جيدا.. كأني أسمع صوت صغيري يبكي.
ونظرت بلهفة وشوق إلي البحر الكبير.. وجدت البحر يتماوج ويدفع تابوتا خشبيا ناحية الشاطئ.. ربتت الموجات الصغيرة على التابوت وتركته عند رمال الشاطئ و تابعت رحلتها الهادئة صفا وراء صف.
أسرعت الظبية إلي التابوت ولمحت داخله جنينا جميل الشكل يبكي.. فرحت الظبية بالصغير وقالت :
ـ لقد أرسله الله لي ليعوضني عن وليدي الذي فقدته.
وألقمته حلمتها ليشرب ويرتوي من لبنها ويكف عن البكاء.. ثم حملته وأسرعت به سعيدة إلي حيوانات وطيور الجزيرة.. تفحصت الحيوانات الكائن الغريب الذي وجدته الظبية بارتياب وشك.
قال شيخ الغزلان مندهشا :
ـ هذا الكائن لا يشبه أحد من حيوانات الغابة.
وألقى الأرنب نظرة إليه وتراجع دون أن يتعرف عليه وقالت النعامة:
ـ ربما كان كائنا بحريا.
الحمامة الوديعة تفحصته جيدا وقالت:
ـ لا.. لا.. أظن أنه ينتمي إلي بني الإنسان.
قالت الحيوانات بدهشة:
ـ الإنسان؟!
ـ نعم.. لقد كنت أطير بالقرب من بلاد الإنسان وشاهدت بعض الناس وهو يشبههم كثيرا، ولابد أن يكون واحدا منهم.
قال الحمار قلقا:
ـ أري أن نتخلص من هذا الكائن ونعيده إلي البحر ثانية.
انزعجت الظبية من كلام الحمار وخفق قلبها بسرعة خوفا على الصغير، فضمته إلي صدرها وحملته بعيدا عن الحيوانات وقالت:
ـ لا شأن لأحد بصغيري، سأحتفظ به لنفسي.
طمأن شيخ الغزلان الظبية الطيبة وقال:
ـ لا تقلقي يا ظبية، لن يؤذيه أحد لكننا نتناقش من أجل مصلحة الجزيرة وسكانها. ونظر إلى الحمار مستفسرا وقال:
ـ ولم نتخلص منه.. إنني لا أرى له أنيابا أو مخالب ولا اعتقد أنه سيشكل خطرا علينا؟
قال الحمار شارحا وجهة نظره:
ـ لقد كان جدي يعمل في بلاد الإنسان وكان يشتكي من سوء معاملة بعض الناس له وأخشى أن يكبر هذا الإنسان ويسيء معاملتنا.
صاح الديك وقال:
ـ لقد قرأت في بعض الكتب أن الإنسان يجمع في نفسه بين الخير والشر ولو كبر هذا الإنسان بيننا ربما تسبب في دخول الشر إلى جزيرتنا.
رفرفت الحمامة الوديعة معترضة وقالت:
ـ صحيح أن الإنسان يجمع بين الخير والشر،لكنه يمتلك طاقة وعقلا يمكننا أن نستفيد منهما.. خاصة والحياة بجزيرتنا صعبة وربما أفادنا الإنسان بعقله وأفكاره.
فكرت الحيوانات فيما قالته الحمامة، ثم قال شيخ الغزلان:
ـ وجهة نظر الحمامة صحيحة، يمكن أن يفيدنا الإنسان، وسنحرص على أن نربي فيه قيم الخير والحب فنستفيد من طاقته وعقله ونأمن الشر الذي بداخله.
وافقت الحيوانات والطيور على هذا الرأي وقرروا الاحتفاظ بالإنسان بينهم وتربيته على قيم الخير والحب والسلام.. فرحت الظبية الطيبة لاحتفاظها بالصغير وربت شيخ الغزلان على الصغير وقال لها:
ـ وماذا ستسميه ؟
فكرت الظبية قليلا وقالت:
ـ سأسميه صاحب الغزلان .
(2 )
عاش صاحب الغزلان لا يعرف أما له إلا الظبية الطيبة ،وحوطته الحيوانات بالحب والمودة، ومنذ كبر صاحب الغزلان وأصبح عمره سبع سنوات، فكر في أفكار جميلة لصالح الجزيرة.. فقد كان بالجزيرة نهر يثور ويهيج كل عام في موسم الفيضان ويغرق الجزيرة ويقتلع المزروعات ويجرف الأشجار ويسبب الفزع للحيوانات فتهرب خوفا من الغرق إلي سفح الجبل البعيد بأقصى الجزيرة حتى يهدأ النهر وينتهي الفيضان وتبتلع الأرض الماء.
فكر الولد في بناء سد يحمي الجزيرة من الفيضان وساعدته الحيوانات على بنائه وشق الترع ليروي الأرض ويزرع الحبوب والقمح والشعير والبرسيم حتى نضجت الثمار وزادت الغلال وبات الطعام وفيرا، كما مهد طرقا تسلكها الحيوانات بسهولة ويسر وبني بيوتا وأودية وحظائر وأعشاشا وجحورا لتسكنها الحيوانات والطيور، حتى ارتدت الجزيرة ثيابها المزركشة وغمرها العشب الأخضر وازدانت بالورود والأزهار، وحرص الولد على أن يصنع صناديق يجمع وأصحابه فيها القمامة لتظل الجزيرة نظيفة وجميلة، ثم يذهب ليستحم في البحر ويداعب الموجات الصغيرة وبعد أن ينتهي من استحمامه يعود إلى الجزيرة يمتطي أرجوحته ويحلق كطائر صغير حتى يلامس السحابات البيضاء ثم يعود إلى البساط الأخضر يغازل الزهرات المتفتحة ويلعب ويلهو مع الحيوانات والطيور ويغنون في سعادة:
ما أجمل الجزيرة في ساعة الظهيرة
نغدو تحت الشجر
وشمسنا الجميلة تداعب الخميلة
فيضحك القمر
حتى جاء يوم حلقت فيه ملكة الغربان الشريرة فوق سماء البحر الكبير، وسمعت غناء الولد مع حيوانات الجزيرة.. توقفت ملكة الغربان عن التحليق، وقالت لأصحابها من الغربان السود:
ـ أتسمعون هذا الغناء؟
ـ لابد أنه قادم من الجزيرة المهجورة.
ـ ربما كانت تسكنها الأشباح يا ملكة الغربان.
ضربت ملكة الغربان بجناحيها السود الفضاء وشاهدت صاحب الغزلان يلعب مع الحيوانات والطيور، قالت ملكة الغربان لأصحابها:
ـ أيها الكسالي الجبناء.. الأشباح لا تسكن إلا في رؤوسكم، إنهم الحيوانات الأليفة التي تعبت سنين في البحث عنها.
ـ وماذا سنفعل يا ملكة الشر في كل زمان ومكان؟
ضحكت ملكة الغربان بخبث ودهاء وقالت:
ـ لابد أن نعمل سريعا لننشر الشر والرعب في الجزيرة الآمنة، ليعرف الجميع أن ملكة الغربان لا تترك مكانا دون أن تنشر فيه الحرب والدمار.. سنخبر صديقنا الذئب ونرشده إلي طريق الجزيرة.. وأنتم تعرفون كم هو نهم وجائع لاتهام الحيوانات الأليفة.
ـ حقا سيفرح الذئب بهذا الطعام الوفير.
لكن ملكة الغربان قبل أن تعود إلى الغابة سألت نفسها عن السبب الذي جعل الولد يعيش مع حيوانات الجزيرة وقالت:
ـ إنني أكره بني الإنسان فهم يستعملون العقل والتدبير في أمورهم.. ولو بقي الولد في الجزيرة سيفسد خططي ويحارب الذئب وربما طرده من الجزيرة.
وقررت أن تبقي بالجزيرة حتى تعرف حكاية صاحب الغزلان وتفكر في طريقة تبعده عن طريقها أو تجعله لا يساعد حيوانات الجزيرة.
وكلفت أحد صغار الغربان أن يتنكر على شكل طائر العقعق، فوضعت على ذيله بعض الريش ليبدو طويلا كذيل العقعق، ونزل إلى الجزيرة ليعرف حكاية الولد ولماذا يعيش مع الحيوانات.
(3 )
عاد الغراب الصغير وحكى ما عرفه عن صاحب الغزلان، وقال إن الولد يعتقد أنه من قطيع الغزلان وأمه الظبية الطيبة.
فرحت ملكة الغربان بالأخبار التي حملها الغراب الصغير وقالت بغرور:
ـ إذن هذا الولد يظن نفسه من عالم الحيوان.
.......................................
ـ سيكون من السهل أن أوقع بينه وبين الحيوانات لو أخبرته أنه من بني الإنسان ولا ينتمي إلي عالم الحيوان..
وسأوقظ الشر في نفسه وساعتها يمكن أن يساعدنا بدلا من أن يقف مع حيوانات الجزيرة ضدنا.
وضعت ملكة الغربان في رأسها ومضت نحو تنفيذها.. ظلت ترقب الولد من بعيد،حتى وجدته يجلس وحيدا فوق صدر صخرة عند شاطئ البحر.. رفرفت بجناحيها بالقرب منه وقالت:
ـ ها أنا قد وجدتك أخيرا.
ألتفت الولد إلي مصدر الصوت وأشار إلى نفسه وقال:
ـ هل تقصديني أنا؟
ـ نعم.
ـ ولماذا لم تبدئي كلامك بالسلام؟!!
ضحكت ملكة الغربان في نفسها وقالت: ( السلام.. كم أكره هذه الكلمة وأتمني ألا يعرفها أحد ).
- بماذا تهمهمين؟
ـ لا شي.. اعذرني يا صديقي.
لقد قطعت مسافة كبيرة في الطيران من الغابة إلى الجزيرة لأصل إليك.
اندهش الولد وقال:
ـ لكنني لا أعرفك ولم أرك من قبل!
ـ هذا صحيح، لكنني أعرفك وأعرف أنك تنتمي إلي عالم البشر وبني الإنسان.
أحنى الولد رأسه باستغراب، فلم يكن سمع من قبل عن البشر وبني الإنسان وقال:
ـ بنو الإنسان ؟!
ـ نعم يا صديقي، الإنسان الذي كرمه الله على باقي المخلوقات.
ـ ولماذا يكون الإنسان أفضل من باقي المخلوقات؟
ـ لأن الله وهب الإنسان العقل والحلم وطاقة جبارة تجعله يستطيع أن يحقق حلمه.
ـ وما الذي يجعلني أصدقك وأصدق أنني انتمي إلى عالم الإنسان؟!
ـ الأمر سهل يا صديقي، فليس لي مصلحة أن أكذب عليك.. كما أنك لو نظرت إلى الحيوانات ستجدها تكتسي بالوبر أو الشعر أو الريش ليحميها من تقلبات الجو ولها من القرون والأنياب والمخالب ما تدافع به عن نفسها، أما أنت فتختار بعقلك ما يناسبك في الصيف أو الشتاء، وبهذا العقل تتغلب على المصاعب والأخطار.. كما أنك تمتلك القدرة على الحلم وتغيير ما حولك إلي الأفضل.. وبمقدرتك على الحلم جعلت من الجزيرة المهجورة جنة تغمر الحيوانات بخيراتها.
وأراك تعمل وتتفاني في خدمة الحيوانات والطيور بينما كان من الطبيعي أن تصبح سيدا للجزيرة ويصبح سكانها في خدمتك وطاعتك.
ـ لكن جزيرتنا ليس لها سيد يحكمها.
ـ يا صديقي كل مكان لابد أن يكون له حاكم.. في غابة الحيوان الأسد ملك الغابة، وفي عالم البشر كل بلد من البلدان له رئيس أو ملك أو أمير، ليدير شؤون المكان ويرعى سكانه.. وأنت بعقلك وتفكيرك الأصلح لتصبح سيدا لجزيرة الحيوانات.
رنت كلمات ملكة الغربان في أذني الولد، وراقت له فكرة أن يصبح سيدا للجزيرة وتعجب كيف لم يفكر في هذا الأمر من قبل.. الجزيرة تحتاج إلى من يديرها ويرعى شؤون الحيوانات والطيور، وهو أجدر من يقوم بهذا العمل، فقد تعب حتى أصبحت الجزيرة لا مثيل لها في دينا الحيوان، كما أنه يمتلك في نفسه شيئا أشبه بالسحر يدفعه إلي حب الحياة والاعتناء بها والبحث عن الأفضل له ولحيوانات الجزيرة ومن الطبيعي أن يصبح سيد للجزيرة كما تقول ملكة الغربان.. لكن ماذا لو رفضت الحيوانات هذه الفكرة؟
قالت ملكة الغربان وكأنها قرأت الأفكار التي تدور برأسه:
ـ وهل هذا معقول يا صديقي؟!
لو كنت مكانهم لوافقت فورا.. فأنا أعرف قدر الإنسان جيدا.
صمتت ملكة الغربان برهة كأنها تفكر، ثم قالت:
ـ أما إذا رأت الحيوانات رأيا آخر، في هذه الحالة سيكون لك الحق أن تفعل أي شي لتجبرهم على طاعتك.
اندهش الولد، فما الذي يجبر الحيوانات على طاعته وتنصيبه سيدا للجزيرة.. قالت ملكة الغربان:
ـ يمكنك كما صنعت بيوتا وحظائر أن تصنع أقفاصا وتحبس الحيوانات فيها، وكما صنعت السد ليحميهم من الفيضان، يمكنك أن تهدمه لتغرق الجزيرة ويعترفوا بك سيدا للجزيرة، وأنا على أتم الاستعداد لمساعدتك.
انزعج الولد حين تخيل الجزيرة تغرق وتتهدم البيوت والأشجار وتموت المزروعات والأزهار.. نظر بدهشة وذهول وشعر بالندم، وقال:
- لكن هذه الأفكار ستدمر الجزيرة وتجعلها خرابا.
همست ملكة الغربان في أذن الولد تريد أن تقنعه وقالت :
ـ يا صديقي الخير والشر وجهان لعملة واحدة.. وحين تصبح سيدا للجزيرة ستعيد بناء السد من جديد وتجعل الجزيرة أجمل مما كانت عليه.
اطمأنت ملكة الغربان حين رأت الفكرة تلمع في عيني الولد وتحوم حول رأسه كطيور صغيرة.. وغادرت الجزيرة لتخبر صديقها الذئب وترشده إلى طريق الجزيرة لتكمل خطة الشر التي وضعتها.
بينما وقف الولد حائر مترددا، تتلاعب به الأفكار وتقذفه في شتي الاتجاهات، حتى قرر أن يطرح الفكرة على الحيوانات والطيور ويخبرهم أنه يريد أن يصبح سيدا للجزيرة.
لم تمانع الحيوانات أن يصبح للجزيرة سيد يحكمها ويدير شؤونها وينظم العمل بها.. لكن كل حيوان من حيواناتها رأي في نفسه أنه الأحق بأن يصبح سيدا للجزيرة، واتفقت الحيوانات على أنه لا يمكن اختيار كائن لا ينتمي إلي عالم الحيوان ليكون سيدا عليهم.
طال الجدال بين الولد والحيوانات وبين الحيوانات بعضها بعضا، وارتفعت الأصوات في نقاش حاد كاد أن يصل بالحيوانات إلي التصارع فيما بينها.. امتص شيخ الغزلان غضب الولد وثورة الحيوانات في مهدها وقال:
ـ منذ أتينا إلي الجزيرة ونحن نعيش معا لا فرق بين حيوان وآخر.. وعلينا أن ننسى هذه الفكرة ونبعدها عن رؤوسنا حتى لا تتسبب في زرع الفتنة بيننا.
وافقت الحيوانات بعد نقاش ومجادلة على رأي شيخ الغزلان منعا للفتنة وانصرف الولد غاضبا تطارده أفكار ملكة الغربان الشريرة، فلا أحد من الحيوانات قدر ما قام به من عمل لصالح الجزيرة، واعتبرت الحيوانات عدم انتسابه لعالم الحيوان وانتماءه لبني الإنسان سببا كفيلا بحرمانه من أن يصبح سيدا للجزيرة.
(4 )
حان موسم حرث الأرض وزراعتها.. مرت أيام ومازال الولد غاضبا ورفض أن يساعد الحيوانات ويزرع الأرض ورفض أن يساعد الحيوانات ويزرع الأرض ولم يعد يتبادل الكلام معهم. وذات مساء سمعت الحيوانات عواء الذئب ونعيق الغربان.. ساد الرعب والخوف الجزيرة.. توقع الجميع أن تزرع ملكة الغربانـ المعروفة بخبثها وغدرها وإيقاعها بين الحيواناتــ الشر بالجزيرة.
فرت الطيور مذعورة إلي أقنانها، وهربت الحيوانات إلي بيوتها وأوديته، بينما ودعت ملكة الغربان صديقها الذئب وقالت إنها ستقوم بمهمة شريرة في الغابة وحين تعود تريد أن تسمع أخبارا جيدة، قال الذئب بثقة:
ـ اطمئني يا صديقتي.. سأبذل قصارى جهدي..
أسرعت الظبية الطيبة تستنجد بالولد لينقذهم من ملكة الغربان والذئب بعد أن دخلا الجزيرة وسببا الرعب لأهلها.. لكن الولد لم يهتم.
قال إن ملكة الغربان لو كانت تعيش معهم لما اعترضت على اختياره سيدا للجزيرة، أنه لا ينتمي إلى عالم الحيوان ولا يهمه أمرهم.
شعرت الظبية بالأسى، دمعت عيناها وقالت:
ـ صحيح أنك لست من قطيع الغزلان ولا تنتمي إلي عالم الحيوان، لكن ذلك لا يعني شيئا، أنا أمك التي أرضعتك وربتك، ولي حق عليك.
وتركته وانصرفت إلي وادي الغزلان حزينة.
وفي اليوم التالي بينما كانت كلمات أمه الظبية تشق طريقها إلي قلبه، سمع الولد أن الذئب التهم إحدى الماعز وعددا من الدواجن وخمش بمخالبه رقبة الزرافة الجميلة.
شعر الولد بالقلق والخوف على أصحابه من الحيوانات، ووجد أن هناك واجبا ملقى على عاتقه تجاههم مهما كان غاضبا.
ففي المحن علينا أن ننسي خلافاتنا ونتحد لمواجهة الأخطار، وقرر أن يسرع ويمضي إليهم.
كانت الحيوانات والطيور في اجتماع ليروا ماذا سيفعلون.. فالجزيرة لم تعد آمنة، والشر فتح فكيه ورش الرعب في أرضها.. وقف أحد خراف وادي الماعز وقال:
ـ من اليوم لن يغادر أحد واديه.
ثار شيخ الغزلان غاضبا وقال:
ـ حتى إن بقينا في أوديتنا من يضمن ألا يهاجمنا الذئب.
وقالت النعامة وهى ترتعد خوفا:
ـ إذا أردنا النجاة لابد أن نترك جزيرتنا ونبحث عن مكان آخر.
سمع الولد كلمات النعامة الخائفة ولم يعجبه استسلامها ورغبيها في الهروب، صاح الولد وقال:
ـ هذا المكان لنا نحميه وندافع عنه بأنفسنا وأرواحنا..
قاطعت النعامة الولد وقالت:
ـ وماذا نفعل بعد أن هاجمنا الذئب، هل ننتظر حتى يلتهمنا واحدا بعد الآخر؟!
أيد الأرنب ما قالته النعامة وقال:
ـ النعامة معها حق.. لا أحد يستطيع أن يقف في وجه الذئب وملكة الغربان.
نظر صاحب الغزلان إلي الحيوانات وصاح فيهم:
ـ هذا الكلام غير صحيح، قوة عدونا من ضعفنا واستسلامنا.. ولو تركنا جزيرتنا سيطاردنا الشر أينما ذهبنا.. دعوا خوفكم ولتكن قلوبكم كالحديد وقرونكم أحد من السيوف والرماح واتحدوا معا، ساعتها سننتصر على الشر ونطرده من جزيرتنا.
دب الحماس في القلوب.. هتفت الحيوانات في صوت واحد:
ـ سندافع عن وطننا مهما كان الثمن.
قاطع الولد الحيوانات والطيور وقال إنه لا وقت لديهم إلا للعمل والاستعداد لمواجهة الذئب، وفكر في الخطة التي سيقاتلون بها الذئب، ثم شرحها للحيوانات وقال إنهم سيختبئون جميعا عن عيني الذئب الحمراوين بحيث إذا هاجم أوديتهم وجدها خالية، حتى يقرصه الجوع وينهكه التعب ويصبح كالمجنون لا يفكر إلا في إشباع جوعه.. حينها تطير الحمامة بصحبتها أحد العصافير ويقفان فوق شجرة بالقرب من الذئب ويتصنعان أنهما لا يريانه، ويتحدثان بصوت يسمعه، وتخبر الحمامة العصفور أن الحيوانات تختبئ في وادي النعام بعيدا عن عيني الذئب الشرير.. قاطع الحمار الولد وقال:
ـ ساعتها سيعرف الذئب طريقنا ويهاجمنا هناك!
ضحك الولد وقال للحمار إنه يتعجل ولا يحسن الاستماع.. ستكون الحيوانات مختبئة في جبل الجزيرة البعيد وتظهر الأرانب بوادي النعام أمام الذئب ليطاردهم هناك.. حينها تهرب الأرانب إلي الجحور وسيظل الذئب مشغولا بالبحث عن طريقة لإمساك بالأرانب وإشباع جوعه ويبقي هناك لأطول وقت ممكن.. وفي هذه الأثناء تقوم الحيوانات بالتسلل من الجبل البعيد دون أن يشعر بها الذئب وتذهب إلى وادي الغزلان وتحفر حفرة كبيرة وعميقة تغطيها بأغصان الأشجار والأوراق وتبقى الحيوانات بالوادي.. بينما تنتظر الغزلان عند مدخل الوادي وحين يهاجمها الذئب تجري الغزلان وتقفز من فوق الأغصان وأوراق الأشجار التي تغطي الحفرة.
وحينها سيكون الذئب منهكا من التعب والجوع ويسقط في الحفرة العميقة ونرتاح من شره.
نفذت الحيوانات الخطة كما رسمها الولد.. قامت الأرانب بدورها بشجاعة رغم ما اشتهر عنها من جبن، وظل الذئب ينتقل من جحر إلى جحر دون أن يستطيع الإمساك بأحدها حتى أنهكه التعب، فرقد على الأرض وتصنع الموت مثل خدعة صديقه الثعلب الشهيرة، ربما تأمن الأرانب وتخرج من جحورها.
عادت ملكة الغربان الشريرة إلي الجزيرة ووجدت الحيوانات مجتمعين بوادي النعام.. نعقت ملكة الغربان على صديقها الذئب وقالت:
ـ لما ترقد هكذا أيها الكسول؟!
همس الذئب حتى كادت ملكة الغربان لا تسمع عواءه وقال:
ـ اصمتي.. الأرانب تختبئ في الجحور وأنا جائع، منذ أيام لم أذق طعاما.
اغتاظت ملكة الغربان الشريرة من غباء صديقها وجذبته بمخالبها وقالت:
ـ يا أحمق، ترقد هنا وتتصنع الموت لتطارد الأرانب بينما الحيوانات أمامك بوادي الغزلان.
انتفض الذئب واقفا وهرول إلى وادي الغزلان، بينما ملكة الغربان تلاحقه بنعيقها.. وما إن لمح قطيع الغزلان حتى ركض بكل قواه خلفهم، فقفزوا من فوق الحفرة التي غطتها الأغصان، وأعمي الشر والطمع والجوع الذئب فسقط فيها.
نعقت ملكة الغربان وحلقت عاليا حين شاهدت الذئب يسقط في الحفرة وقالت:
- يا لك من أحمق.. قادك حمقك إلى الهلاك.
حلقت طيور الجزيرة في أسراب وطاردت ملكة الغربان وغربانها السود حتى هربوا من الجزيرة، وحملت حيوانات الجزيرة الولد الذي استطاع أن يخلصهم من شر ملكة الغربان وصديقها الذئب وظلوا يرقصون ويغنون فرحا بالنصر وقرروا منح صاحب الغزلان لقب سيد الجزيرة مكافأة لإنقاذه الجزيرة من شر ملكة الغربان والذئب الشرير.. فلا أحد غيره جدير بهذا اللقب.
ومن حينها تعيش الحيوانات والطيور مع صاحب الغزلان في حب وسلام بجزيرتهم الآمنة.
( عن قصة حي بن يقظان لابن طفيل )
قصة للأطفال من 6- 10 سنوات
القصة الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي
أحمد محمد طوسون
لملمت الشمس أشعتها الشاحبة ورحلت بعيدا وانتظرت الحيوانات الأليفة حتى زار الليل الغابة وألقي ستارة الظلام عليها ومرت أصابعه على الجفون أغمضتها، فغرقت الوحوش والسباع في نوم عميق.
تحسست الحيوانات طريقها وسط الغابة وسارت على أطراف أقدامها وحوافرها حتى لا تشعر بها ملكة الغربان الشريرة وصديقها الذئب.
وصلت الحيوانات إلي شاطى البحر دون أن يشعر بها أحد.. صعدت الحيوانات والطيور إلى مركبهم كي يهاجروا إلى الجزيرة المهجورة التي أرشدتهم إليها الحمامة الوديعة ليعيشوا في سلام بعيدا عن شر ملكة الغربان وصديقها الذئب.
ظلت ملكة الغربان نائمة حتى لسعتها أشعة الشمس الذهبية فاستيقظت متعجبة أنها نامت حتى سخنت أشعة الشمس ولسعتها، ولم تسمع الديك ذا العرف الأحمر الكبير يصيح كعادته مع أول ضوء للشمس: (كوكو.. كوكو ).. قالت ملكة الغربان لنفسها:
ـ لِمَ لمْ يصح الديك اليوم كعادته ويوقظني؟!
وقررت أن تذهب لتعرف السبب بنفسها، لكنها لم تجد الديك، كما لم تجد أحدا من الطيور أو الحيوانات الأليفة في الغابة.
غضبت ملكة الغربان وثارت.. ظلت تحدث نفسها وتقول:
ـ أين ذهبت الحيوانات والطيور الضعيفة والمسالمة؟!
ـ لابد أنهم وجدوا مكانا آمنا اختبأوا فيه....
ـ وأين وجدوا هذا المكان ؟!
ـ سأبحث عنه.. لن أترك مكانا في الغابة حتى أجدهم..
بينما ترقرقت أمواج البحر وادعة هادئة حتى وصل مركب الحيوانات الأليفة إلى الجزيرة الآمنة.
غردت الطيور وضربت الفضاء بأجنحتها وهللت الحيوانات ورفعت أقدامها سرورا.. رقصوا وغنوا فرحا بجزيرتهم الجديدة.. ماعدا الظبية الطيبة.. كانت حزينة على وليدها الذي سقط من المركب أثناء رحلتهم في البحر الكبير.. بقيت الظبية الحزينة عند الشاطئ تراقب الموجات الصغيرة وتبكي على وليدها الذي فقدته.. تردد في أذنيها أنين قادم من ناحية البحر.. انفطر قلب الظبية حين سمعت الأنين وقالت لنفسها:
ـ أنصتي جيدا.. كأني أسمع صوت صغيري يبكي.
ونظرت بلهفة وشوق إلي البحر الكبير.. وجدت البحر يتماوج ويدفع تابوتا خشبيا ناحية الشاطئ.. ربتت الموجات الصغيرة على التابوت وتركته عند رمال الشاطئ و تابعت رحلتها الهادئة صفا وراء صف.
أسرعت الظبية إلي التابوت ولمحت داخله جنينا جميل الشكل يبكي.. فرحت الظبية بالصغير وقالت :
ـ لقد أرسله الله لي ليعوضني عن وليدي الذي فقدته.
وألقمته حلمتها ليشرب ويرتوي من لبنها ويكف عن البكاء.. ثم حملته وأسرعت به سعيدة إلي حيوانات وطيور الجزيرة.. تفحصت الحيوانات الكائن الغريب الذي وجدته الظبية بارتياب وشك.
قال شيخ الغزلان مندهشا :
ـ هذا الكائن لا يشبه أحد من حيوانات الغابة.
وألقى الأرنب نظرة إليه وتراجع دون أن يتعرف عليه وقالت النعامة:
ـ ربما كان كائنا بحريا.
الحمامة الوديعة تفحصته جيدا وقالت:
ـ لا.. لا.. أظن أنه ينتمي إلي بني الإنسان.
قالت الحيوانات بدهشة:
ـ الإنسان؟!
ـ نعم.. لقد كنت أطير بالقرب من بلاد الإنسان وشاهدت بعض الناس وهو يشبههم كثيرا، ولابد أن يكون واحدا منهم.
قال الحمار قلقا:
ـ أري أن نتخلص من هذا الكائن ونعيده إلي البحر ثانية.
انزعجت الظبية من كلام الحمار وخفق قلبها بسرعة خوفا على الصغير، فضمته إلي صدرها وحملته بعيدا عن الحيوانات وقالت:
ـ لا شأن لأحد بصغيري، سأحتفظ به لنفسي.
طمأن شيخ الغزلان الظبية الطيبة وقال:
ـ لا تقلقي يا ظبية، لن يؤذيه أحد لكننا نتناقش من أجل مصلحة الجزيرة وسكانها. ونظر إلى الحمار مستفسرا وقال:
ـ ولم نتخلص منه.. إنني لا أرى له أنيابا أو مخالب ولا اعتقد أنه سيشكل خطرا علينا؟
قال الحمار شارحا وجهة نظره:
ـ لقد كان جدي يعمل في بلاد الإنسان وكان يشتكي من سوء معاملة بعض الناس له وأخشى أن يكبر هذا الإنسان ويسيء معاملتنا.
صاح الديك وقال:
ـ لقد قرأت في بعض الكتب أن الإنسان يجمع في نفسه بين الخير والشر ولو كبر هذا الإنسان بيننا ربما تسبب في دخول الشر إلى جزيرتنا.
رفرفت الحمامة الوديعة معترضة وقالت:
ـ صحيح أن الإنسان يجمع بين الخير والشر،لكنه يمتلك طاقة وعقلا يمكننا أن نستفيد منهما.. خاصة والحياة بجزيرتنا صعبة وربما أفادنا الإنسان بعقله وأفكاره.
فكرت الحيوانات فيما قالته الحمامة، ثم قال شيخ الغزلان:
ـ وجهة نظر الحمامة صحيحة، يمكن أن يفيدنا الإنسان، وسنحرص على أن نربي فيه قيم الخير والحب فنستفيد من طاقته وعقله ونأمن الشر الذي بداخله.
وافقت الحيوانات والطيور على هذا الرأي وقرروا الاحتفاظ بالإنسان بينهم وتربيته على قيم الخير والحب والسلام.. فرحت الظبية الطيبة لاحتفاظها بالصغير وربت شيخ الغزلان على الصغير وقال لها:
ـ وماذا ستسميه ؟
فكرت الظبية قليلا وقالت:
ـ سأسميه صاحب الغزلان .
(2 )
عاش صاحب الغزلان لا يعرف أما له إلا الظبية الطيبة ،وحوطته الحيوانات بالحب والمودة، ومنذ كبر صاحب الغزلان وأصبح عمره سبع سنوات، فكر في أفكار جميلة لصالح الجزيرة.. فقد كان بالجزيرة نهر يثور ويهيج كل عام في موسم الفيضان ويغرق الجزيرة ويقتلع المزروعات ويجرف الأشجار ويسبب الفزع للحيوانات فتهرب خوفا من الغرق إلي سفح الجبل البعيد بأقصى الجزيرة حتى يهدأ النهر وينتهي الفيضان وتبتلع الأرض الماء.
فكر الولد في بناء سد يحمي الجزيرة من الفيضان وساعدته الحيوانات على بنائه وشق الترع ليروي الأرض ويزرع الحبوب والقمح والشعير والبرسيم حتى نضجت الثمار وزادت الغلال وبات الطعام وفيرا، كما مهد طرقا تسلكها الحيوانات بسهولة ويسر وبني بيوتا وأودية وحظائر وأعشاشا وجحورا لتسكنها الحيوانات والطيور، حتى ارتدت الجزيرة ثيابها المزركشة وغمرها العشب الأخضر وازدانت بالورود والأزهار، وحرص الولد على أن يصنع صناديق يجمع وأصحابه فيها القمامة لتظل الجزيرة نظيفة وجميلة، ثم يذهب ليستحم في البحر ويداعب الموجات الصغيرة وبعد أن ينتهي من استحمامه يعود إلى الجزيرة يمتطي أرجوحته ويحلق كطائر صغير حتى يلامس السحابات البيضاء ثم يعود إلى البساط الأخضر يغازل الزهرات المتفتحة ويلعب ويلهو مع الحيوانات والطيور ويغنون في سعادة:
ما أجمل الجزيرة في ساعة الظهيرة
نغدو تحت الشجر
وشمسنا الجميلة تداعب الخميلة
فيضحك القمر
حتى جاء يوم حلقت فيه ملكة الغربان الشريرة فوق سماء البحر الكبير، وسمعت غناء الولد مع حيوانات الجزيرة.. توقفت ملكة الغربان عن التحليق، وقالت لأصحابها من الغربان السود:
ـ أتسمعون هذا الغناء؟
ـ لابد أنه قادم من الجزيرة المهجورة.
ـ ربما كانت تسكنها الأشباح يا ملكة الغربان.
ضربت ملكة الغربان بجناحيها السود الفضاء وشاهدت صاحب الغزلان يلعب مع الحيوانات والطيور، قالت ملكة الغربان لأصحابها:
ـ أيها الكسالي الجبناء.. الأشباح لا تسكن إلا في رؤوسكم، إنهم الحيوانات الأليفة التي تعبت سنين في البحث عنها.
ـ وماذا سنفعل يا ملكة الشر في كل زمان ومكان؟
ضحكت ملكة الغربان بخبث ودهاء وقالت:
ـ لابد أن نعمل سريعا لننشر الشر والرعب في الجزيرة الآمنة، ليعرف الجميع أن ملكة الغربان لا تترك مكانا دون أن تنشر فيه الحرب والدمار.. سنخبر صديقنا الذئب ونرشده إلي طريق الجزيرة.. وأنتم تعرفون كم هو نهم وجائع لاتهام الحيوانات الأليفة.
ـ حقا سيفرح الذئب بهذا الطعام الوفير.
لكن ملكة الغربان قبل أن تعود إلى الغابة سألت نفسها عن السبب الذي جعل الولد يعيش مع حيوانات الجزيرة وقالت:
ـ إنني أكره بني الإنسان فهم يستعملون العقل والتدبير في أمورهم.. ولو بقي الولد في الجزيرة سيفسد خططي ويحارب الذئب وربما طرده من الجزيرة.
وقررت أن تبقي بالجزيرة حتى تعرف حكاية صاحب الغزلان وتفكر في طريقة تبعده عن طريقها أو تجعله لا يساعد حيوانات الجزيرة.
وكلفت أحد صغار الغربان أن يتنكر على شكل طائر العقعق، فوضعت على ذيله بعض الريش ليبدو طويلا كذيل العقعق، ونزل إلى الجزيرة ليعرف حكاية الولد ولماذا يعيش مع الحيوانات.
(3 )
عاد الغراب الصغير وحكى ما عرفه عن صاحب الغزلان، وقال إن الولد يعتقد أنه من قطيع الغزلان وأمه الظبية الطيبة.
فرحت ملكة الغربان بالأخبار التي حملها الغراب الصغير وقالت بغرور:
ـ إذن هذا الولد يظن نفسه من عالم الحيوان.
.......................................
ـ سيكون من السهل أن أوقع بينه وبين الحيوانات لو أخبرته أنه من بني الإنسان ولا ينتمي إلي عالم الحيوان..
وسأوقظ الشر في نفسه وساعتها يمكن أن يساعدنا بدلا من أن يقف مع حيوانات الجزيرة ضدنا.
وضعت ملكة الغربان في رأسها ومضت نحو تنفيذها.. ظلت ترقب الولد من بعيد،حتى وجدته يجلس وحيدا فوق صدر صخرة عند شاطئ البحر.. رفرفت بجناحيها بالقرب منه وقالت:
ـ ها أنا قد وجدتك أخيرا.
ألتفت الولد إلي مصدر الصوت وأشار إلى نفسه وقال:
ـ هل تقصديني أنا؟
ـ نعم.
ـ ولماذا لم تبدئي كلامك بالسلام؟!!
ضحكت ملكة الغربان في نفسها وقالت: ( السلام.. كم أكره هذه الكلمة وأتمني ألا يعرفها أحد ).
- بماذا تهمهمين؟
ـ لا شي.. اعذرني يا صديقي.
لقد قطعت مسافة كبيرة في الطيران من الغابة إلى الجزيرة لأصل إليك.
اندهش الولد وقال:
ـ لكنني لا أعرفك ولم أرك من قبل!
ـ هذا صحيح، لكنني أعرفك وأعرف أنك تنتمي إلي عالم البشر وبني الإنسان.
أحنى الولد رأسه باستغراب، فلم يكن سمع من قبل عن البشر وبني الإنسان وقال:
ـ بنو الإنسان ؟!
ـ نعم يا صديقي، الإنسان الذي كرمه الله على باقي المخلوقات.
ـ ولماذا يكون الإنسان أفضل من باقي المخلوقات؟
ـ لأن الله وهب الإنسان العقل والحلم وطاقة جبارة تجعله يستطيع أن يحقق حلمه.
ـ وما الذي يجعلني أصدقك وأصدق أنني انتمي إلى عالم الإنسان؟!
ـ الأمر سهل يا صديقي، فليس لي مصلحة أن أكذب عليك.. كما أنك لو نظرت إلى الحيوانات ستجدها تكتسي بالوبر أو الشعر أو الريش ليحميها من تقلبات الجو ولها من القرون والأنياب والمخالب ما تدافع به عن نفسها، أما أنت فتختار بعقلك ما يناسبك في الصيف أو الشتاء، وبهذا العقل تتغلب على المصاعب والأخطار.. كما أنك تمتلك القدرة على الحلم وتغيير ما حولك إلي الأفضل.. وبمقدرتك على الحلم جعلت من الجزيرة المهجورة جنة تغمر الحيوانات بخيراتها.
وأراك تعمل وتتفاني في خدمة الحيوانات والطيور بينما كان من الطبيعي أن تصبح سيدا للجزيرة ويصبح سكانها في خدمتك وطاعتك.
ـ لكن جزيرتنا ليس لها سيد يحكمها.
ـ يا صديقي كل مكان لابد أن يكون له حاكم.. في غابة الحيوان الأسد ملك الغابة، وفي عالم البشر كل بلد من البلدان له رئيس أو ملك أو أمير، ليدير شؤون المكان ويرعى سكانه.. وأنت بعقلك وتفكيرك الأصلح لتصبح سيدا لجزيرة الحيوانات.
رنت كلمات ملكة الغربان في أذني الولد، وراقت له فكرة أن يصبح سيدا للجزيرة وتعجب كيف لم يفكر في هذا الأمر من قبل.. الجزيرة تحتاج إلى من يديرها ويرعى شؤون الحيوانات والطيور، وهو أجدر من يقوم بهذا العمل، فقد تعب حتى أصبحت الجزيرة لا مثيل لها في دينا الحيوان، كما أنه يمتلك في نفسه شيئا أشبه بالسحر يدفعه إلي حب الحياة والاعتناء بها والبحث عن الأفضل له ولحيوانات الجزيرة ومن الطبيعي أن يصبح سيد للجزيرة كما تقول ملكة الغربان.. لكن ماذا لو رفضت الحيوانات هذه الفكرة؟
قالت ملكة الغربان وكأنها قرأت الأفكار التي تدور برأسه:
ـ وهل هذا معقول يا صديقي؟!
لو كنت مكانهم لوافقت فورا.. فأنا أعرف قدر الإنسان جيدا.
صمتت ملكة الغربان برهة كأنها تفكر، ثم قالت:
ـ أما إذا رأت الحيوانات رأيا آخر، في هذه الحالة سيكون لك الحق أن تفعل أي شي لتجبرهم على طاعتك.
اندهش الولد، فما الذي يجبر الحيوانات على طاعته وتنصيبه سيدا للجزيرة.. قالت ملكة الغربان:
ـ يمكنك كما صنعت بيوتا وحظائر أن تصنع أقفاصا وتحبس الحيوانات فيها، وكما صنعت السد ليحميهم من الفيضان، يمكنك أن تهدمه لتغرق الجزيرة ويعترفوا بك سيدا للجزيرة، وأنا على أتم الاستعداد لمساعدتك.
انزعج الولد حين تخيل الجزيرة تغرق وتتهدم البيوت والأشجار وتموت المزروعات والأزهار.. نظر بدهشة وذهول وشعر بالندم، وقال:
- لكن هذه الأفكار ستدمر الجزيرة وتجعلها خرابا.
همست ملكة الغربان في أذن الولد تريد أن تقنعه وقالت :
ـ يا صديقي الخير والشر وجهان لعملة واحدة.. وحين تصبح سيدا للجزيرة ستعيد بناء السد من جديد وتجعل الجزيرة أجمل مما كانت عليه.
اطمأنت ملكة الغربان حين رأت الفكرة تلمع في عيني الولد وتحوم حول رأسه كطيور صغيرة.. وغادرت الجزيرة لتخبر صديقها الذئب وترشده إلى طريق الجزيرة لتكمل خطة الشر التي وضعتها.
بينما وقف الولد حائر مترددا، تتلاعب به الأفكار وتقذفه في شتي الاتجاهات، حتى قرر أن يطرح الفكرة على الحيوانات والطيور ويخبرهم أنه يريد أن يصبح سيدا للجزيرة.
لم تمانع الحيوانات أن يصبح للجزيرة سيد يحكمها ويدير شؤونها وينظم العمل بها.. لكن كل حيوان من حيواناتها رأي في نفسه أنه الأحق بأن يصبح سيدا للجزيرة، واتفقت الحيوانات على أنه لا يمكن اختيار كائن لا ينتمي إلي عالم الحيوان ليكون سيدا عليهم.
طال الجدال بين الولد والحيوانات وبين الحيوانات بعضها بعضا، وارتفعت الأصوات في نقاش حاد كاد أن يصل بالحيوانات إلي التصارع فيما بينها.. امتص شيخ الغزلان غضب الولد وثورة الحيوانات في مهدها وقال:
ـ منذ أتينا إلي الجزيرة ونحن نعيش معا لا فرق بين حيوان وآخر.. وعلينا أن ننسى هذه الفكرة ونبعدها عن رؤوسنا حتى لا تتسبب في زرع الفتنة بيننا.
وافقت الحيوانات بعد نقاش ومجادلة على رأي شيخ الغزلان منعا للفتنة وانصرف الولد غاضبا تطارده أفكار ملكة الغربان الشريرة، فلا أحد من الحيوانات قدر ما قام به من عمل لصالح الجزيرة، واعتبرت الحيوانات عدم انتسابه لعالم الحيوان وانتماءه لبني الإنسان سببا كفيلا بحرمانه من أن يصبح سيدا للجزيرة.
(4 )
حان موسم حرث الأرض وزراعتها.. مرت أيام ومازال الولد غاضبا ورفض أن يساعد الحيوانات ويزرع الأرض ورفض أن يساعد الحيوانات ويزرع الأرض ولم يعد يتبادل الكلام معهم. وذات مساء سمعت الحيوانات عواء الذئب ونعيق الغربان.. ساد الرعب والخوف الجزيرة.. توقع الجميع أن تزرع ملكة الغربانـ المعروفة بخبثها وغدرها وإيقاعها بين الحيواناتــ الشر بالجزيرة.
فرت الطيور مذعورة إلي أقنانها، وهربت الحيوانات إلي بيوتها وأوديته، بينما ودعت ملكة الغربان صديقها الذئب وقالت إنها ستقوم بمهمة شريرة في الغابة وحين تعود تريد أن تسمع أخبارا جيدة، قال الذئب بثقة:
ـ اطمئني يا صديقتي.. سأبذل قصارى جهدي..
أسرعت الظبية الطيبة تستنجد بالولد لينقذهم من ملكة الغربان والذئب بعد أن دخلا الجزيرة وسببا الرعب لأهلها.. لكن الولد لم يهتم.
قال إن ملكة الغربان لو كانت تعيش معهم لما اعترضت على اختياره سيدا للجزيرة، أنه لا ينتمي إلى عالم الحيوان ولا يهمه أمرهم.
شعرت الظبية بالأسى، دمعت عيناها وقالت:
ـ صحيح أنك لست من قطيع الغزلان ولا تنتمي إلي عالم الحيوان، لكن ذلك لا يعني شيئا، أنا أمك التي أرضعتك وربتك، ولي حق عليك.
وتركته وانصرفت إلي وادي الغزلان حزينة.
وفي اليوم التالي بينما كانت كلمات أمه الظبية تشق طريقها إلي قلبه، سمع الولد أن الذئب التهم إحدى الماعز وعددا من الدواجن وخمش بمخالبه رقبة الزرافة الجميلة.
شعر الولد بالقلق والخوف على أصحابه من الحيوانات، ووجد أن هناك واجبا ملقى على عاتقه تجاههم مهما كان غاضبا.
ففي المحن علينا أن ننسي خلافاتنا ونتحد لمواجهة الأخطار، وقرر أن يسرع ويمضي إليهم.
كانت الحيوانات والطيور في اجتماع ليروا ماذا سيفعلون.. فالجزيرة لم تعد آمنة، والشر فتح فكيه ورش الرعب في أرضها.. وقف أحد خراف وادي الماعز وقال:
ـ من اليوم لن يغادر أحد واديه.
ثار شيخ الغزلان غاضبا وقال:
ـ حتى إن بقينا في أوديتنا من يضمن ألا يهاجمنا الذئب.
وقالت النعامة وهى ترتعد خوفا:
ـ إذا أردنا النجاة لابد أن نترك جزيرتنا ونبحث عن مكان آخر.
سمع الولد كلمات النعامة الخائفة ولم يعجبه استسلامها ورغبيها في الهروب، صاح الولد وقال:
ـ هذا المكان لنا نحميه وندافع عنه بأنفسنا وأرواحنا..
قاطعت النعامة الولد وقالت:
ـ وماذا نفعل بعد أن هاجمنا الذئب، هل ننتظر حتى يلتهمنا واحدا بعد الآخر؟!
أيد الأرنب ما قالته النعامة وقال:
ـ النعامة معها حق.. لا أحد يستطيع أن يقف في وجه الذئب وملكة الغربان.
نظر صاحب الغزلان إلي الحيوانات وصاح فيهم:
ـ هذا الكلام غير صحيح، قوة عدونا من ضعفنا واستسلامنا.. ولو تركنا جزيرتنا سيطاردنا الشر أينما ذهبنا.. دعوا خوفكم ولتكن قلوبكم كالحديد وقرونكم أحد من السيوف والرماح واتحدوا معا، ساعتها سننتصر على الشر ونطرده من جزيرتنا.
دب الحماس في القلوب.. هتفت الحيوانات في صوت واحد:
ـ سندافع عن وطننا مهما كان الثمن.
قاطع الولد الحيوانات والطيور وقال إنه لا وقت لديهم إلا للعمل والاستعداد لمواجهة الذئب، وفكر في الخطة التي سيقاتلون بها الذئب، ثم شرحها للحيوانات وقال إنهم سيختبئون جميعا عن عيني الذئب الحمراوين بحيث إذا هاجم أوديتهم وجدها خالية، حتى يقرصه الجوع وينهكه التعب ويصبح كالمجنون لا يفكر إلا في إشباع جوعه.. حينها تطير الحمامة بصحبتها أحد العصافير ويقفان فوق شجرة بالقرب من الذئب ويتصنعان أنهما لا يريانه، ويتحدثان بصوت يسمعه، وتخبر الحمامة العصفور أن الحيوانات تختبئ في وادي النعام بعيدا عن عيني الذئب الشرير.. قاطع الحمار الولد وقال:
ـ ساعتها سيعرف الذئب طريقنا ويهاجمنا هناك!
ضحك الولد وقال للحمار إنه يتعجل ولا يحسن الاستماع.. ستكون الحيوانات مختبئة في جبل الجزيرة البعيد وتظهر الأرانب بوادي النعام أمام الذئب ليطاردهم هناك.. حينها تهرب الأرانب إلي الجحور وسيظل الذئب مشغولا بالبحث عن طريقة لإمساك بالأرانب وإشباع جوعه ويبقي هناك لأطول وقت ممكن.. وفي هذه الأثناء تقوم الحيوانات بالتسلل من الجبل البعيد دون أن يشعر بها الذئب وتذهب إلى وادي الغزلان وتحفر حفرة كبيرة وعميقة تغطيها بأغصان الأشجار والأوراق وتبقى الحيوانات بالوادي.. بينما تنتظر الغزلان عند مدخل الوادي وحين يهاجمها الذئب تجري الغزلان وتقفز من فوق الأغصان وأوراق الأشجار التي تغطي الحفرة.
وحينها سيكون الذئب منهكا من التعب والجوع ويسقط في الحفرة العميقة ونرتاح من شره.
نفذت الحيوانات الخطة كما رسمها الولد.. قامت الأرانب بدورها بشجاعة رغم ما اشتهر عنها من جبن، وظل الذئب ينتقل من جحر إلى جحر دون أن يستطيع الإمساك بأحدها حتى أنهكه التعب، فرقد على الأرض وتصنع الموت مثل خدعة صديقه الثعلب الشهيرة، ربما تأمن الأرانب وتخرج من جحورها.
عادت ملكة الغربان الشريرة إلي الجزيرة ووجدت الحيوانات مجتمعين بوادي النعام.. نعقت ملكة الغربان على صديقها الذئب وقالت:
ـ لما ترقد هكذا أيها الكسول؟!
همس الذئب حتى كادت ملكة الغربان لا تسمع عواءه وقال:
ـ اصمتي.. الأرانب تختبئ في الجحور وأنا جائع، منذ أيام لم أذق طعاما.
اغتاظت ملكة الغربان الشريرة من غباء صديقها وجذبته بمخالبها وقالت:
ـ يا أحمق، ترقد هنا وتتصنع الموت لتطارد الأرانب بينما الحيوانات أمامك بوادي الغزلان.
انتفض الذئب واقفا وهرول إلى وادي الغزلان، بينما ملكة الغربان تلاحقه بنعيقها.. وما إن لمح قطيع الغزلان حتى ركض بكل قواه خلفهم، فقفزوا من فوق الحفرة التي غطتها الأغصان، وأعمي الشر والطمع والجوع الذئب فسقط فيها.
نعقت ملكة الغربان وحلقت عاليا حين شاهدت الذئب يسقط في الحفرة وقالت:
- يا لك من أحمق.. قادك حمقك إلى الهلاك.
حلقت طيور الجزيرة في أسراب وطاردت ملكة الغربان وغربانها السود حتى هربوا من الجزيرة، وحملت حيوانات الجزيرة الولد الذي استطاع أن يخلصهم من شر ملكة الغربان وصديقها الذئب وظلوا يرقصون ويغنون فرحا بالنصر وقرروا منح صاحب الغزلان لقب سيد الجزيرة مكافأة لإنقاذه الجزيرة من شر ملكة الغربان والذئب الشرير.. فلا أحد غيره جدير بهذا اللقب.
ومن حينها تعيش الحيوانات والطيور مع صاحب الغزلان في حب وسلام بجزيرتهم الآمنة.
بالون الغرور
قصة للطفل
سن من 6 إلى 12 سنة
أحمد طوسون
شاهدَتْ الفأرةُ صورتَها في المرآةِ .
تأملتْ شعْرَها الكستنائي المعقودَ بشريطٍ أبيض وفستانَها الأحمرَ الجميلَ وأدْهَشَّها جمالهُا الساحرُ الذي يسرقُ العيونَ ويأسِّرُ القلوبَ و العقولَ .
سارَتْ في خُيَلاء وألتفتَتْ إلى جرذٍ مفتولِ الساعدين وله شاربان أسودان كبيران جاء يتمسحُ بها ويطلبُها للزواجِ وقالَتْ ساخرةً :
- إليكَ عني أيها البائس الضعيف الذي لا يملك إلا جحراً ضيقاً يسّعُه بالكادِ .
جمالي لا يستحقُه إلا أقوى المخلوقاتِ وأعظمها شأناً !
امتصَ الجرذُ غضبَهُ وانسحبَ يُرددُ بأسى :
- كمْ هي مغترةٌ بجمالِها ؟!
وانصرفَتْ عنه لتبحثَ عَنْ مخلوقٍ قوي جدير بها وبجمالِها ، وليس جرذاً يهربُ عند الخطرِ إلى أي شقٍ في جدارٍ أو في شجرةٍ أو في الأرضِ .
ويا ليّته يهربُ مِنْ شيءٍ ذي قيمةٍ ، بَلْ يكفي أنْ يرى هرّاً لتصطكَ قوائمُهُ وترتعدُ وينبضُ قلبُه بسرعةٍ مجنونةٍ مِنْ الخوفِ .
وقالَتْ :
- لا أريدُ أنْ أعيشَ في حذرٍ دائم ٍ.
فأرةٌ جميلةٌ مثلي تستحقُ حياةً أفضَّلَ .
فكرَتْ الفأرةُ الجميلةُ وقالَتْ لنفسِها : ( لا يليقُ بي وبجمالي إلا الأسدُ ملكُ الغابةِ وأقوى حيواناتِها )
وذهبَتْ إلى غابةِ الأسدِ لتقابلَ ملكَ الغابةِ وتعرضُ نفسَها عليه .
ابتسمَ الأسدُ الحكيمُ وقالَ :
- أنتِ حقاً أجمل ما شاهدت عيناي
وتستحقين أقوى المخلوقاتِ ..
وأرى أنَّ الشمسَ أحق بكِ مني .
فكلُّ قوتي لا تستطيعَ أنْ تحميني من حرارةِ الشمسِ
حين تسخن شعاعاتُها وتلتهبُ .
بينما كان يقولُ في نفسِه :
( هل هي مجنونةٌ لتفكرَ بالزواجِ من أسدٍ ، أم إنَّها مغرورةٌ جداً .
ماذا سأفعلُ بزوجةٍ جميلةٍ لا تستطيع أنْ تصطادَ وعلاً يُشبعُ جوعي ) .
فكرَتْ الفأرةُ في كلامِ الأسدِ وقالَتْ : ( يجبُ أنْ أستعينَ ببالونٍ يطيرُ بي إلى بيتِ الشمس ) .
ركبَتْ الفأرةُ المغرورةُ بالونَها و ذهبَتْ إلى بيتِ الشمسِ البعيدِ وراءَ التلِ .
كان البيتُ يشبه تفاحةً حمراء قانية ، كبيرة جداً بصورةٍ لم تكن تتخيلُها .
بيتٌ بعيدٌ وهادئٌ يلفُّه السكونُ والرهبةُ .
الشمسُ ذات الخيوطِ الذهبيةِ اكتسَتْ بأضوائها القرمزيةِ و قالَتْ :
- للأسف يا جميلتي ..
لست قويةً بالصورةِ التي تتوقعينها .
السحابُ الأبيضُ أجدرُ بكِ مني ..
فبإمكانِه في كلِّ وقتٍ أنْ يَحجِبَ شعاعاتي الذهبيةَ عن الأرضِ .
بينما كانت تقولُ لنفسِها :
( هل هي مجنونةٌ لتفكرَ بالزواجِ من شمس ، أم إنَّها مغرورةٌ جداً .
هل تستطيعُ فأرةٌ أنْ تتحملَ حرارةَ شمسٍ تصلُ إلى درجةِ الأحتراقِ .
يا لها من غبيةٍ ؟! )
جرجرَتْ الفأرةُ خطواتِها وتهادَّتْ مثل طاووسٍ وركبَتْ بالونَها وقَصَدَتْ واديَّ السحابِ .
كان كلُّ شيءٍ حولها ناصعَ البياضِ .
من بعيدٍ رأت ديماتٍ صغيرةً تلهو وتلعبُ مع النجومِ الزاهيةِ وحين انتهينَّ حملنَّ حقائبَهنّ وذهبنَّ إلى مدارسِهنّ التي في السماءِ تنتظرهن .
والسحابُ الأبيضُ الطيبُ الذي يشبهُ نتفَ القطنِ قالَ بأسى وقطرات بلورية صغيرة تشبه الدموعَ تتساقطُ من عينيه :
- ليتني كنتُ حقاً أقوى المخلوقاتِ ..
إنَّني أضعفُ مما تتخيلين ..
يكفي أنْ يتقابلَ الهواءُ الباردُ مع الهواءِ الساخن لأذوبَ إلى قطراتٍ صغيرةٍ وأًسْقُطَ مطراً على الأرضِ .
الريحُ الغاضبةُ بالتأكيدِ أقوى وأجدَّرُ بكِ مني
فبإمكانها أنْ تقودني إلى حيث تشاء .
بينما كان يقولُ في نفسِه : ( يا لها من مسكينةٍ ، لا يوجدُ مخلوقٌ كاملٌ ، الكمالُ لله وحده ) .
طارَ البالونُ الملونُ بالفأرةِ الجميلةِ بحثاً عن طريقٍ يوصلُهما إلى بيتِ الرياحِ ، لكنَّ الريحَ الغاضبة دائماً فاجئتهما بعاصفةٍ من التياراتِ الهوائيةٍ التي تلاعبَتْ بالبالونِ وطوحَتْهُ يميناً ويساراً ، ولم تعدْ الفأرةُ قادرةً على التحكمِ في مسارِه حتى انخلعَ قلبُها رعباً .
حينها توقفَتْ الريحُ عن ألعابِها البهلوانيةِ ، وسكنَتْ بعد أنْ أطلقَتْ صفيراً موجعاً ، وسألت الفأرةَ عن السببِ الذي جعلها تسألُ عن الرياحِ .
استعادت الفأرةُ أنفاسَها بصعوبةٍ قبْل أنْ تحكيَّ للرياحِ قصتَها .
ضحكَتْ الريحُ وتصاعدَّتْ منها دوماتٌ هوائيةٌ شديدةٌ بثَّتْ الرعبَ في قلبِ الفأرةِ الجميلةِ وقالَتْ باستغرابٍ :
( ذلك الجرذُ المسكين
يا له من ضحيةٍ لجمالِكِ الفاتنِ !
مَنْ قالَ إنَّني أقوى المخلوقاتِ ، اذهبي أيتها الفاتنةُ إلى الجبلِ الراسخِ في شموخٍ ربما كان الأقوى .
فأنا بكلِّ قوتي وعنفواني لم استطعْ تحريكَه من مكانِه – عبْر سنين طوال _ قيد أنمله ؟! ) .
أسرعَتْ الفأرةُ وطارت ببالونِها بعيداً وهي تحمدُ الله - في سرِها - أنْ الريحَ ليست أقوى المخلوقاتِ ! .
انطلقَ البالونُ إلى الجبلِ الشامخِ الذي وقفَ صامداً منذ آلاف السنين في وجه الطبيعةِ وتقلباتِها .
حين وصلت الفأرةُ إلى الجبلِ وحيَّته وتكلمَتْ معه ضحكَ حتى ارتجت الأرضُ تَحتَ قدميّ الفأرةِ الجميلةِ وقالَ :
- ولماذا لا تتزوجين من أحدِ الجرذانِ أيتها الجميلة ؟
تعجبت الفأرةُ المغرورةُ وقالَتْ :
- ألا تعرف أيها الجبلُ كم نحن مخلوقات بلا فائدةٍ ولا قيمةٍ لها
لاتجيد الفئرانُ شيئاً إلا أنْ تَقْرِّضَ وتأكلَ وتُفسدَ في الأرضِ ؟
لكن الجبلَ الشامخَ لم يُصدقْ على كلامِ الفأرةِ المغرورةِ والجاهلةِ أيضاً ، وقالَ لها : ( يا صغيرتي لا يوجد مخلوقٌ على الأرضِ بلا فائدةٍ ، وكلُّ مخلوقٍ يقومُ بعملِه الذي كلفَه به خالقُه سبحانه وتعالى ، ويكفي أنَّ كثيراً من فئرانِ التجاربِ ضحوا بحياتِهم من أجل اكتشافِ أدويةٍ جديدةٍ للإنسانِ - الذي كرمَّهُ الله وجعله سيداً على باقي المخلوقاتِ – لتقيهم من الأمراضِ ويتفرغ البشرُ لعمارةِ الأرضِ واصلاحِها وعبادةِ الخالقِ ربِّ القدرةِ العظيم ) .
اعترضَتْ الفأرةُ المغرورةُ وقالَتْ :
- حتى لو كان كلامُكَ صحيحاً
الفئرانُ مخلوقاتٌ ضعيفةٌ وأنا أريدُ مَنْ يحميني
فالعالمُ لايحترمَ إلا الأقوياءَ .
ابتسمَ الجبلُ وقالَ :
- يا جميلتي القوةُ ليست القوةَ الجسديةَ والبدنيةَ
القوةُ الحقيقيةُ أنْ نكتشفَ قدراتَنا وننميَّها بالعلمِ والعملِ وساعتها سنحمي أنفسَنا بأنفسِنا ..
ولن ننتظرَ كالكسالى مِنْ الآخرين أنْ يمنحونا أماناً زائفاً .
إنكِ يا صغيرتي تبحثين عن سرابٍ .
الجبلُ الواقفُ أمامَكِ لم يستطعْ أنْ يمنعَ جرذاً صغيراً من أنْ يحفرَ جحراً في جسدِه ويتخذَه بيتاً ! .
وما كاد الجبلُ يَفْرغُ من كلامِه حتى انتبهَتْ الفأرةُ إلى نتوءٍ بارزٍ بالجبلِ يشبهُ سكيناً حاداً وخزَ البالونَ الذي تركبُه ، فخرجَ الهواءُ منه سريعاً إلى أنْ انفجرَ البالونُ وتناثر قطعاً صغيرةً سقطَتْ على الأرضِ وسقطت معه الفأرةُ بالقربِّ من جُحرِّها .
لم تُصدقْ الفأرةُ إنَّها نجَّتْ ، كما لم تصدقْ الصورةَ التي رأتها في المرآةِ ، فقد كان وجهُها الجميلُ مخضباً بالدماءِ والترابِ والجروحِ .
وظلَّت تصرخُ وهي تداري وجهَها بكفيِّها وتقولُ :
- ليس معقولاً أنَّني الواقفةُ أمامي في المرآةِ !
بعدها عادت الفأرةُ الجميلةُ إلى صوابِها وتطايرَ غرورُها كما خرجَ الهواءُ من البالونِ وذهبَتْ لتبحثَ عن الجرذِ الذي طلبها للزواجِ ، لكنَّها وجدته تزوجَ بفأرةٍ أخرى ربما كانت أقلَّ جمالاً ، لكنها بالتأكيدِ كانت أكثرَّ عقلاً .
عادت الفأرةُ حزينةً إلى جحرِّها وهي تقولُ لنفسِها :
- آهٍ يا ألمي
لقد تصرفتُ كالحمقى
وأضعتُ جرذاً كان جديراً بالأحترامِ .
الفراشة وزهرة النرجس
بقلم أحمد طوسون
كانت الفراشة كعادتها ترف بين الأزهار، تشتم رائحة الورود وتشرب من رحيقها وتغني بسعادة وفرح.كل يوم على هذا الحال حتى حط طائر حسون على غصن شجرة وفتح منقاره إلى أخره وظل يضحك بلا انقطاع: _ هاهاها.. هاهاها.. هاهاها.. هاهاه..هاها.. حتى يئست الفراشة أن يتوقف عن الضحك، فطارت ورفت بالقرب منه وسألته بصوت هامس: - هل هناك شيء.. ؟ وانقطعت عن الكلام وظلت تنظر إلى نفسها باستغراب. - أقصد.. هكذا قالت ولم تكمل كلامها بعد أن تضخمت ضحكات الحسون كفيل ضخم وملأت أذنيها عن أخرهما ولم تعد تسمع شيئا آخر غيرها.لكن طائر الحسون الصغير أغلق فمه وأطبق على منقاريه قبل أن يقول بجدية تامة: - أوه مسكينة يا صديقتي.. كيف يمكنك أن تعيشين في الحياة وتستمتعين بها دون أن تكون بحديقتك زهرة نرجس واحدة؟. وتركها وحلق عاليا خلف ديمة صغيرة.ألتفتت الفراشة حولها ثم طارت بعيدا وتحت عينيها حفرت الدموع حفرة كبيرة بحجم الأسى الذي كانت تشعر بهوظلت تردد في نفسها ( كيف أعيش في حديقة بلا زهرة نرجس واحدة؟ ). ولم يعد باستطاعتها أن تستمتع برائحة الورود أو باستنشاق العبير أو بارتشاف الرحيق حتى ذبلت وانطفأت ألوانها الزاهية. بينما الفراشات حولها كن ترقبنها وتتعجبن، كيف للفراشة المسكينة أن تأسى على غياب زهرة وحيدة عن حديقتها وتنسى كل الورود الجميلة التي تزهر بها الحديقة. حتى لو كانت زهرة نرجس؟!.
بقلم أحمد طوسون
كانت الفراشة كعادتها ترف بين الأزهار، تشتم رائحة الورود وتشرب من رحيقها وتغني بسعادة وفرح.كل يوم على هذا الحال حتى حط طائر حسون على غصن شجرة وفتح منقاره إلى أخره وظل يضحك بلا انقطاع: _ هاهاها.. هاهاها.. هاهاها.. هاهاه..هاها.. حتى يئست الفراشة أن يتوقف عن الضحك، فطارت ورفت بالقرب منه وسألته بصوت هامس: - هل هناك شيء.. ؟ وانقطعت عن الكلام وظلت تنظر إلى نفسها باستغراب. - أقصد.. هكذا قالت ولم تكمل كلامها بعد أن تضخمت ضحكات الحسون كفيل ضخم وملأت أذنيها عن أخرهما ولم تعد تسمع شيئا آخر غيرها.لكن طائر الحسون الصغير أغلق فمه وأطبق على منقاريه قبل أن يقول بجدية تامة: - أوه مسكينة يا صديقتي.. كيف يمكنك أن تعيشين في الحياة وتستمتعين بها دون أن تكون بحديقتك زهرة نرجس واحدة؟. وتركها وحلق عاليا خلف ديمة صغيرة.ألتفتت الفراشة حولها ثم طارت بعيدا وتحت عينيها حفرت الدموع حفرة كبيرة بحجم الأسى الذي كانت تشعر بهوظلت تردد في نفسها ( كيف أعيش في حديقة بلا زهرة نرجس واحدة؟ ). ولم يعد باستطاعتها أن تستمتع برائحة الورود أو باستنشاق العبير أو بارتشاف الرحيق حتى ذبلت وانطفأت ألوانها الزاهية. بينما الفراشات حولها كن ترقبنها وتتعجبن، كيف للفراشة المسكينة أن تأسى على غياب زهرة وحيدة عن حديقتها وتنسى كل الورود الجميلة التي تزهر بها الحديقة. حتى لو كانت زهرة نرجس؟!.