شتاء قارس
أحمد طوسون
كنا عائدين إلى البيوت نرتجف من الصقيع ، مررنا تحت شرفتها ، ضوت لمبتها الصفراء في عيوننا فأوجعنا الوهج .
كعادتنا قلنا مساء الخير ، وواصلنا سيرنا .
انحرفنا يسارا مع نهاية العمارات الجديدة بحثا عن بيوتنا التي اختبأت تحتها .
عند أول البيوت فارقنا أحدنا إلى داره وقال :
- تصبحون على خير .
تخطينا أكثر من بيت وتركنا آخر .
عند تقاطع أزقة ضيقة افترق كل منا إلى طريقه ، يؤنسه دخان أنفاسه الأبيض .
قال أحدنا قبل أن يتركنا :
- لم ترد تحيتنا .
خبأنا أكفنا في الجيوب وكنا نسمعهما :
- كعادتها منذ فترة !
- لكنني لم أرها الليلة ..
وافترقنا ، فلم نعد نسمع بعضنا .
عند تقاطع الأزقة الضيقة تقابلنا في الصباح ، وعند آخر البيوت اكتملنا .
دلفنا ناحية العمارات الجديدة ، سمعنا ضجيجا لم نعتده في صباحاتنا الشتوية ، ورأينا - عند شرفتها - كلبا ينبح وأناسا كثيرين يحومون حول البيت وعربة شرطة ترتكز بمؤخرتها عند الباب .
تأملنا كسل الصباحيات على وجوهنا وفركنا أعيننا وقلنا :
- ماتت .
****
من بيوتنا اعتدنا رؤيتها قبل أن تفصلها عنا العمارات الجديدة ، تجلس فوق كرسيها الخيزران في جلباب بيتي وتلف رأسها بشال أسود ينتهي بشراشيب صغيرة .
في الشارع نرى أزهار حديقتنا تتفتح ونراها على كرسيها تتابع لعبنا بعيون دافئة .
أول مرة نراها حسبناها سكنت حينا حديثا واشترت البيت من أصحابه الذين لم يعتادوا فتح شرفتهم من قبل .
أخبرتنا أمهاتنا أنها أول من سكنت المنطقة لكنها لم تكن تفتح أبدا شرفتها .
زوجها الله يرحمه كان يمنعها الخروج إلى الشارع أو رؤيته ولم يسمح لها أن تفتح بابها لأحد ، حتى والدها حين أتى لزيارتها لم تفتح له قبل أن يعود زوجها من العمل ، غضب عليها وأقسم ألا يزورها مرة أخرى ولم تفتح .
قالت بعدها وهى تبكى : إن زوجها كان يأخذ معه المفاتيح .
******
حين مات زوجها لم يترك لها إلا بنتا وحيدة .
بعد أن تزوجت تركتها وعاشت مع زوجها .
من ساعتها نراها كل يوم ، بمجرد أن يفتح النهار بواباته تفتح شرفتها وتجلس على كرسيها الخيزران وتتابعنا ونحن نلعب أمام البيوت .
حين يطيح أحدنا بالكرة إلى شرفتها تزعق أمهاتنا فينا ، فتعيد الكرة إلينا وتنهرهن وتقول :
- اتركوهم يلعبون .
.............
ولكن احرصوا ألا تطيحوا بالكرة ناحية أحواض الزهور
*****
كل جمعة اعتدنا ألا نراها ونرى شرفتها مغلقة فنعرف أن ابنتها عندها .
في هذا اليوم لا تفتح شرفتها أبدا حتى بعد أن تتركها ابنتها وتعود إلى زوجها .
تقول أمهاتنا إن ابنتها لا تبقى عندها كثيرا ، زوجها لا يحب أن تتأخر عند أمها .
مرت جمع كثيرة رأينا فيها الشرفة مفتوحة ورأيناها تجلس على كرسيها الخيزران ، قالوا إن ابنتها سافرت إلى الخليج مع زوجها وتجلس تنتظر البوسطجى ليحمل إليها الخطابات .
وكنا نراه أول كل شهر يركب دراجته ويقف بها تحت شرفتها ، يفتح حقيبته الجلدية القديمة ، يخرج خطابات كثيرة ويعطيها أحدها ، وحين لم يعد يمر عليها طلبت منا أن نسأل عنه في البوسطة الجديدة .
رحنا ورجعنا إليها وقلنا إن الخطابات تأخذ زمنا طويلا حتى تصل وإن خطابات كثيرة تضيع في الطريق وإن البوسطة لم تعد كما كانت زمان وأنه بمجرد أن يجد الخطابات سيأتي إليها .
*****
كل صباح تنتظرنا بدوارق الماء ـ حتى عندما كبرنا وذهبنا إلى وظائفنا الحكومية ، تناولها لنا لنسقى أحواض حديقتنا الصغيرة ، كنا نقول لها :
- لا تتعبي نفسك
عمال الحى يقومون بريها
وكانت تقول :
- لأجل خاطري ....
خذوا الدوارق واسقوها
العمال لن يهتموا بها مثلنا
وكنا نرى الأزهار تتفتح وتميل ناحية شرفتها كل صباح ، وحين غابت عن شرفتها مرت أيام لم نر الأزهار تتفتح فيها .
قمنا بزيارتها والسؤال عن صحتها عندما علمنا بمرضها وحين أخبرناها طلبت أن نحملها إلى كرسيها الخيزران وأعطتنا دوارق الماء لنسقى زهورها ، وتعجبنا حين تفتحت الزهور ومالت ناحية شرفتها .
*******
لم تعد تنتظر البوسطجى أو تسألنا عنه ، وحين رأيناه فوق دراجته يقف تحت شرفتها ويفتح حقيبته الجلدية القديمة فرحنا ، لكننا رأيناها ترفض أن تأخذ خطابها .
حين أصر البوسطجى وضعته إلى جوارها فوق كرسيها الخيزران ورأيناها تمسح دموعا سقطت من عينيها .
أعاد البوسطجى خطاباته إلى حقيبته وركب دراجته وسمعناها تنادى عليه مرة أخرى ... وأعطته دورق الماء ليسقى به أزهارها .
******
حين سمعنا خشخشة التروس وتزييق الرفاعات ورأينا الجرافات من بعيد تعجبنا .
قال أحدنا : يقولون إن الحي ينوى بناء عمارات سكنية في المنطقة .
رأينا الجرافات تمد أسنانها وتلتهم أحواض الزهور بين فكيها ، ورأيناها في شرفتها تصرخ بأعلى صوتها وصرختها تضيع بين عواء الجرافات ، ولأول مرة نراها تفتح باب بيتها وتلقى بنفسها فوق أحواض الزهور .
قالت الأمهات : لأول مرة تخرج من بيتها بعد وفاة زوجها ، كانت تخاف أن يغضب عليها في تربته ...
ورأينا عمال الحي يجرونها بعيدا عن الجرافات .
أسرعنا ومنعناهم عنها وحملناها إلى كرسيها الخيزران .
*****
ارتفعت أعمدة الخراسانيات حتى حجبت بيوتنا عنها ولم نعد نراها إلا في طريقنا إلى العمل وعودتنا منه ، نلقى عليها تحية الصباح فلا ترد علينا ، وحين نعود نلقى عليها تحية المساء فلا ترد علينا .
قلنا ربما تكون غاضبة منا منذ منعناها عن الجرافات !.
ذهبنا إليها فلم تكلمنا ، حتى نظراتها الدافئة لم نعد نراها ، كنا نرى عينيها متحجرتين لا تعبأ بتوسلاتنا ولا تعبأ بالعمارات الأسمنتية الجاثمة فوق بيوتنا ، قال أحدنا : ربما تكون فقدت النطق .
ومن يومها كنا نراها تحملق في حواف جدران شرفتها وفى عينيها أسى عميق .
******
هرعنا إلى باب بيتها .
تخطينا عربة الشرطة ودخلنا خلف الضابط والعسكريين .
أعدنا فرك عيوننا وتعجبنا حين رأيناها ممددة في شرفتها على الأرض بجوار كرسيها الخيزران وشالها الأسود مفتوحة العينين ، وعند حواف جدرانها تنبت زهور لا عدد لها تتناثر بينها رسائل قديمة .
أحمد طوسون
كنا عائدين إلى البيوت نرتجف من الصقيع ، مررنا تحت شرفتها ، ضوت لمبتها الصفراء في عيوننا فأوجعنا الوهج .
كعادتنا قلنا مساء الخير ، وواصلنا سيرنا .
انحرفنا يسارا مع نهاية العمارات الجديدة بحثا عن بيوتنا التي اختبأت تحتها .
عند أول البيوت فارقنا أحدنا إلى داره وقال :
- تصبحون على خير .
تخطينا أكثر من بيت وتركنا آخر .
عند تقاطع أزقة ضيقة افترق كل منا إلى طريقه ، يؤنسه دخان أنفاسه الأبيض .
قال أحدنا قبل أن يتركنا :
- لم ترد تحيتنا .
خبأنا أكفنا في الجيوب وكنا نسمعهما :
- كعادتها منذ فترة !
- لكنني لم أرها الليلة ..
وافترقنا ، فلم نعد نسمع بعضنا .
عند تقاطع الأزقة الضيقة تقابلنا في الصباح ، وعند آخر البيوت اكتملنا .
دلفنا ناحية العمارات الجديدة ، سمعنا ضجيجا لم نعتده في صباحاتنا الشتوية ، ورأينا - عند شرفتها - كلبا ينبح وأناسا كثيرين يحومون حول البيت وعربة شرطة ترتكز بمؤخرتها عند الباب .
تأملنا كسل الصباحيات على وجوهنا وفركنا أعيننا وقلنا :
- ماتت .
****
من بيوتنا اعتدنا رؤيتها قبل أن تفصلها عنا العمارات الجديدة ، تجلس فوق كرسيها الخيزران في جلباب بيتي وتلف رأسها بشال أسود ينتهي بشراشيب صغيرة .
في الشارع نرى أزهار حديقتنا تتفتح ونراها على كرسيها تتابع لعبنا بعيون دافئة .
أول مرة نراها حسبناها سكنت حينا حديثا واشترت البيت من أصحابه الذين لم يعتادوا فتح شرفتهم من قبل .
أخبرتنا أمهاتنا أنها أول من سكنت المنطقة لكنها لم تكن تفتح أبدا شرفتها .
زوجها الله يرحمه كان يمنعها الخروج إلى الشارع أو رؤيته ولم يسمح لها أن تفتح بابها لأحد ، حتى والدها حين أتى لزيارتها لم تفتح له قبل أن يعود زوجها من العمل ، غضب عليها وأقسم ألا يزورها مرة أخرى ولم تفتح .
قالت بعدها وهى تبكى : إن زوجها كان يأخذ معه المفاتيح .
******
حين مات زوجها لم يترك لها إلا بنتا وحيدة .
بعد أن تزوجت تركتها وعاشت مع زوجها .
من ساعتها نراها كل يوم ، بمجرد أن يفتح النهار بواباته تفتح شرفتها وتجلس على كرسيها الخيزران وتتابعنا ونحن نلعب أمام البيوت .
حين يطيح أحدنا بالكرة إلى شرفتها تزعق أمهاتنا فينا ، فتعيد الكرة إلينا وتنهرهن وتقول :
- اتركوهم يلعبون .
.............
ولكن احرصوا ألا تطيحوا بالكرة ناحية أحواض الزهور
*****
كل جمعة اعتدنا ألا نراها ونرى شرفتها مغلقة فنعرف أن ابنتها عندها .
في هذا اليوم لا تفتح شرفتها أبدا حتى بعد أن تتركها ابنتها وتعود إلى زوجها .
تقول أمهاتنا إن ابنتها لا تبقى عندها كثيرا ، زوجها لا يحب أن تتأخر عند أمها .
مرت جمع كثيرة رأينا فيها الشرفة مفتوحة ورأيناها تجلس على كرسيها الخيزران ، قالوا إن ابنتها سافرت إلى الخليج مع زوجها وتجلس تنتظر البوسطجى ليحمل إليها الخطابات .
وكنا نراه أول كل شهر يركب دراجته ويقف بها تحت شرفتها ، يفتح حقيبته الجلدية القديمة ، يخرج خطابات كثيرة ويعطيها أحدها ، وحين لم يعد يمر عليها طلبت منا أن نسأل عنه في البوسطة الجديدة .
رحنا ورجعنا إليها وقلنا إن الخطابات تأخذ زمنا طويلا حتى تصل وإن خطابات كثيرة تضيع في الطريق وإن البوسطة لم تعد كما كانت زمان وأنه بمجرد أن يجد الخطابات سيأتي إليها .
*****
كل صباح تنتظرنا بدوارق الماء ـ حتى عندما كبرنا وذهبنا إلى وظائفنا الحكومية ، تناولها لنا لنسقى أحواض حديقتنا الصغيرة ، كنا نقول لها :
- لا تتعبي نفسك
عمال الحى يقومون بريها
وكانت تقول :
- لأجل خاطري ....
خذوا الدوارق واسقوها
العمال لن يهتموا بها مثلنا
وكنا نرى الأزهار تتفتح وتميل ناحية شرفتها كل صباح ، وحين غابت عن شرفتها مرت أيام لم نر الأزهار تتفتح فيها .
قمنا بزيارتها والسؤال عن صحتها عندما علمنا بمرضها وحين أخبرناها طلبت أن نحملها إلى كرسيها الخيزران وأعطتنا دوارق الماء لنسقى زهورها ، وتعجبنا حين تفتحت الزهور ومالت ناحية شرفتها .
*******
لم تعد تنتظر البوسطجى أو تسألنا عنه ، وحين رأيناه فوق دراجته يقف تحت شرفتها ويفتح حقيبته الجلدية القديمة فرحنا ، لكننا رأيناها ترفض أن تأخذ خطابها .
حين أصر البوسطجى وضعته إلى جوارها فوق كرسيها الخيزران ورأيناها تمسح دموعا سقطت من عينيها .
أعاد البوسطجى خطاباته إلى حقيبته وركب دراجته وسمعناها تنادى عليه مرة أخرى ... وأعطته دورق الماء ليسقى به أزهارها .
******
حين سمعنا خشخشة التروس وتزييق الرفاعات ورأينا الجرافات من بعيد تعجبنا .
قال أحدنا : يقولون إن الحي ينوى بناء عمارات سكنية في المنطقة .
رأينا الجرافات تمد أسنانها وتلتهم أحواض الزهور بين فكيها ، ورأيناها في شرفتها تصرخ بأعلى صوتها وصرختها تضيع بين عواء الجرافات ، ولأول مرة نراها تفتح باب بيتها وتلقى بنفسها فوق أحواض الزهور .
قالت الأمهات : لأول مرة تخرج من بيتها بعد وفاة زوجها ، كانت تخاف أن يغضب عليها في تربته ...
ورأينا عمال الحي يجرونها بعيدا عن الجرافات .
أسرعنا ومنعناهم عنها وحملناها إلى كرسيها الخيزران .
*****
ارتفعت أعمدة الخراسانيات حتى حجبت بيوتنا عنها ولم نعد نراها إلا في طريقنا إلى العمل وعودتنا منه ، نلقى عليها تحية الصباح فلا ترد علينا ، وحين نعود نلقى عليها تحية المساء فلا ترد علينا .
قلنا ربما تكون غاضبة منا منذ منعناها عن الجرافات !.
ذهبنا إليها فلم تكلمنا ، حتى نظراتها الدافئة لم نعد نراها ، كنا نرى عينيها متحجرتين لا تعبأ بتوسلاتنا ولا تعبأ بالعمارات الأسمنتية الجاثمة فوق بيوتنا ، قال أحدنا : ربما تكون فقدت النطق .
ومن يومها كنا نراها تحملق في حواف جدران شرفتها وفى عينيها أسى عميق .
******
هرعنا إلى باب بيتها .
تخطينا عربة الشرطة ودخلنا خلف الضابط والعسكريين .
أعدنا فرك عيوننا وتعجبنا حين رأيناها ممددة في شرفتها على الأرض بجوار كرسيها الخيزران وشالها الأسود مفتوحة العينين ، وعند حواف جدرانها تنبت زهور لا عدد لها تتناثر بينها رسائل قديمة .
طائر أخضر صغير
أحمد طوسون
صبار وحيدة على الإفريز بجوارها قنديل قديم .
شيش بلونه الرمادي الثقيل يغطيه تراب ناعم .
قشور جيرية وتشققات عند الحواف .
لم تكن حجرتها كباقي حجرات بيتنا .
حجرتها واسعة وكبيرة يسكنها هدوء رائق كأنها بعيدة عن ضجيج العالم حولها ، تحتفظ بخصوصية عن حجرات البيت وتحتشد بدفء حقيقي .
حين نفتح نافذتها تتسلل شعاعات الشمس الذهبية ونحس نسمة باردة تنسل إلى داخلنا وتربت على مشاعرنا الصغيرة .
أمي تقول إن حجرة جدتي كغيرها من حجرات بيتنا لكنها لا تزحمها بالكراكيب الصغيرة .
سريرها بناموسته التي تشبه سحابة بيضاء كبيرة .
إلى جواره دولاب صغير بدرج واحد ، فوقه صورة لأبى بزيه الكاكي وملامحه التي تشي بصرامة وطيبة .
علب صغيرة لأدويتها وراديو صغير.
في الناحية الأخرى يستند دولاب خشبي قديم تملؤه الكتب والمجلات وبأحد أرففه تنحشر كومة من ملابسها .
***
دائما تجلس وحيدة في حجرتها ، لا تخرج منها إلا لتتوضأ وتعود ومعها دورق ماء لتسقى صبارها .
سعاد تقول إنها كانت تجمعهم تحت شمس سطحنا وتحكى حكاياتها الجميلة ، حتى جاراتنا كن يتركن حالهن ويبقين منصتات لها .
عندما تراهن أمي تتعجب منهن !.
يقلن :
- حكايتها جميلة ولسانها حلو .
تلك أيام بعيدة لا أتذكرها .
أمي تقول إنها كانت حامل في ..
أبوك كان في الجبهة وجدتك تأخذ أخوتك وتصعد بهم إلى السطح وتقول :
- سننتظر أباهم حتى يعود .
عندما نزهق من واجباتنا ونحس ضيقا نهرع إلى حجرتها ، تتلقفنا في حضنها ، تسألنا عن مدرستنا وأحلامنا التي تشبه بالونات ملونة وأحوالنا ، تعبث في خصلات شعري بكفها ونسمعها تدندن بأغان شجية لا نسمعها إلا منها .
يسرى غناؤها في عروقنا ، تفتح درج دولابها الصغير ، تخرج الحلوى وتعطيها لنا ، وتقول :
- أبوكم منذ صغره يحب الحلوى
يأتي ليبحث عنها في درجي ..
وأحرص ألا يعود بدونها .
سعاد التي أصبحت تشبه أمي كثيرا تحب أن تسمع حكاياتها عن أبى ، تسرح جدتي ببصرها إلى صبارها وتقول :
- لم يكن أحد مثل أبيكم ....
.........................
تفتح ذراعيها لتحتضن شيئا لا نراه وتظل تحكى حتى يغلبني النعاس .
أصحو على صوت أمي تنادينا :
- اتركوا جدتكم لتستريح ..
أرى ملامحها تشي بألم حقيقي ، يذهب أخوتي وأتشبث بحضنها ، تناديني أمي لكنها تنهرها بنظراتها ، فتنسحب وتتركني وحدي معها .
تضمني إلى صدرها ..
أتنفس رائحتها بعمق وأسمعها تهمس بأغانيها الشجية حتى أغلق عيني على البالونات الملونة وأنام .
***
كانت لا تعرف القراءة ..
لكننا نراها تفتح دولابها ، تدحرج نظراتها ناحية الكتب وتتلمس حوافها بأصابعها ، تخرج أحدها ، تتشممه وتتنفس رائحته كأن به أريجا يبعث الحياة فيها وتضمه إلى صدرها .
حين نسألها :
- هل تقرأين يا جدتي ؟!
تبتسم وتقول : إنها تركت المدرسة من ثالثة ابتدائي وتزوجت من جدنا الله يرحمه ..
( على أيامنا لم تكن البنات يكملن تعليمهن ،كنت اقرأ الكلمات الكبيرة في جرائد أبيكم ، أتهجاها حرفا .. حرفا ، وأبوكم يضحك .
لكنه أصر أن يعلمني .. )
تعتدل في جلستها وتزيحنا بعيدا عن صدرها وتقول :
- هاتوا ورقة وقلما .
تجرى صباح وتحضر كراستها وقلمها .
تمسك جدتي بالقلم .
نراه يرتعش بين أصابعها ، ونرى اسم أبينا منقوشا فوق الصفحة البيضاء ودموعا غزيرة تبللها .
..........................
أمي تقول : إنها كتب أبي ، بعد أن استشهد في الحرب جمعتها.
وضعت ملابسها في رف ورصت الكتب واحتفظت بها في دولابها ، حتى عندما تأخذ سعاد كتابا لتقرأه لا تنام جدتي إلا بعد أن تطمئن أنها أعادته .
وحين تنتعش الحكايات على لسانها ويفارقها الصمت تقول : إن أبى كان يقرأ كثيرا ، من صغره يحب الكتب وينفق مصروفه عليها ، لم يكن مثل باقي أصحابه ، كان يقول :
- الكتب تعوضك عن كل شيء ..
لم يخرج مرة إلا وعاد ومعه كتابا جديدا .
حتى ساعة الحرب ، عندما كان يأتي في أجازة وأجهز طعاما ليأخذه معه لأصحابه وأضعه في الشنطة أجده يحمل كتبا معه ، وحين أقول له :
- يا ابني الكتب حتى في الحرب ؟!!
يضحك ويقول :
ـ اقرأها وقت الراحة ..
يسكت لحظة وأسمعه وكأنه يكلم نفسه :
ـ ليتنا قرأناها جيدا !.
ويعود ليقبل يدي ويرتمي في حضني ويتركنا إلى الجبهة .
***
سعاد تقول إن جدتي وصبارها يتشابهان .
لهما نفس الندوب الغائرة والحزن الشفيف .
أمي تقول إن جدتي هرمت ولم تعد تستطيع الذهاب لزيارة قبر أبيكم ، أحضرت الصبار ووضعته على إفريز نافذتها .
كنا نراها تعتني بها وترويها .
نطل عليها ، نرى شفتيها تتحركان وكأنها تتكلم مع أحد ، لكننا لا نسمعها ولا نجد غير صبارها .
بين حين وآخر كنا نراها تلقى أحزانها وترتدي فرحتها ، تفتح بابها وتنادى علينا في لهفة .
نترك حاجتنا ونهرع إليها .
تشير لنا فنبقى في أماكننا صامتين .
وتشير ناحية طائر أخضر صغير بجناحين أزرقين يحوم حول صبارها وتقول :
- روح أبيكم .
نرى الدموع تتراكم في عيني أمنا ، تتركنا وتهرول إلى حجرتها صامتة ..
ومن بعيد نسمع أنينا مكتوما .
سعاد تقول :
- لحظات الوجع تظل باقية في النفس .
كنا نرى الطائر الصغير يدخل حجرتها ويظل يحوم ويرفرف بجناحيه الصغيرين فوق سريرها ودولابها الخشبي القديم وحول وجهها ، وحين يتركنا نرى الدموع تسقط من عينيها ونسمع أنينها الممتد .
***
منذ ماتت جدتي ونحن ننتظر الطائر الصغير ..
نفتح شيش نافذتها الرمادي ، يفاجئنا صبارها الذي أصابه العطش وكساه التراب الناعم بنظرة قاسية .
نزيحه بأكفنا ونرويها ، لكنها كانت تذبل ...
نجلس على سرير جدتي .
صورة أبى تلح على رأسي .. لا أعرف سببا لإحساسي الشديد بفقده .
تحكى سعاد ما حفظته عن جدتنا من حكايات حتى تتعب .
نستلقي على ظهورنا ونراقب السحابة البيضاء فوق سرير جدتي ، نخرج الكتب القديمة ونقلب صفحاتها التي اصفرت ونشم رائحتها العتيقة ..
ونظل ننتظر طائرنا الصغير .
أحمد طوسون
صبار وحيدة على الإفريز بجوارها قنديل قديم .
شيش بلونه الرمادي الثقيل يغطيه تراب ناعم .
قشور جيرية وتشققات عند الحواف .
لم تكن حجرتها كباقي حجرات بيتنا .
حجرتها واسعة وكبيرة يسكنها هدوء رائق كأنها بعيدة عن ضجيج العالم حولها ، تحتفظ بخصوصية عن حجرات البيت وتحتشد بدفء حقيقي .
حين نفتح نافذتها تتسلل شعاعات الشمس الذهبية ونحس نسمة باردة تنسل إلى داخلنا وتربت على مشاعرنا الصغيرة .
أمي تقول إن حجرة جدتي كغيرها من حجرات بيتنا لكنها لا تزحمها بالكراكيب الصغيرة .
سريرها بناموسته التي تشبه سحابة بيضاء كبيرة .
إلى جواره دولاب صغير بدرج واحد ، فوقه صورة لأبى بزيه الكاكي وملامحه التي تشي بصرامة وطيبة .
علب صغيرة لأدويتها وراديو صغير.
في الناحية الأخرى يستند دولاب خشبي قديم تملؤه الكتب والمجلات وبأحد أرففه تنحشر كومة من ملابسها .
***
دائما تجلس وحيدة في حجرتها ، لا تخرج منها إلا لتتوضأ وتعود ومعها دورق ماء لتسقى صبارها .
سعاد تقول إنها كانت تجمعهم تحت شمس سطحنا وتحكى حكاياتها الجميلة ، حتى جاراتنا كن يتركن حالهن ويبقين منصتات لها .
عندما تراهن أمي تتعجب منهن !.
يقلن :
- حكايتها جميلة ولسانها حلو .
تلك أيام بعيدة لا أتذكرها .
أمي تقول إنها كانت حامل في ..
أبوك كان في الجبهة وجدتك تأخذ أخوتك وتصعد بهم إلى السطح وتقول :
- سننتظر أباهم حتى يعود .
عندما نزهق من واجباتنا ونحس ضيقا نهرع إلى حجرتها ، تتلقفنا في حضنها ، تسألنا عن مدرستنا وأحلامنا التي تشبه بالونات ملونة وأحوالنا ، تعبث في خصلات شعري بكفها ونسمعها تدندن بأغان شجية لا نسمعها إلا منها .
يسرى غناؤها في عروقنا ، تفتح درج دولابها الصغير ، تخرج الحلوى وتعطيها لنا ، وتقول :
- أبوكم منذ صغره يحب الحلوى
يأتي ليبحث عنها في درجي ..
وأحرص ألا يعود بدونها .
سعاد التي أصبحت تشبه أمي كثيرا تحب أن تسمع حكاياتها عن أبى ، تسرح جدتي ببصرها إلى صبارها وتقول :
- لم يكن أحد مثل أبيكم ....
.........................
تفتح ذراعيها لتحتضن شيئا لا نراه وتظل تحكى حتى يغلبني النعاس .
أصحو على صوت أمي تنادينا :
- اتركوا جدتكم لتستريح ..
أرى ملامحها تشي بألم حقيقي ، يذهب أخوتي وأتشبث بحضنها ، تناديني أمي لكنها تنهرها بنظراتها ، فتنسحب وتتركني وحدي معها .
تضمني إلى صدرها ..
أتنفس رائحتها بعمق وأسمعها تهمس بأغانيها الشجية حتى أغلق عيني على البالونات الملونة وأنام .
***
كانت لا تعرف القراءة ..
لكننا نراها تفتح دولابها ، تدحرج نظراتها ناحية الكتب وتتلمس حوافها بأصابعها ، تخرج أحدها ، تتشممه وتتنفس رائحته كأن به أريجا يبعث الحياة فيها وتضمه إلى صدرها .
حين نسألها :
- هل تقرأين يا جدتي ؟!
تبتسم وتقول : إنها تركت المدرسة من ثالثة ابتدائي وتزوجت من جدنا الله يرحمه ..
( على أيامنا لم تكن البنات يكملن تعليمهن ،كنت اقرأ الكلمات الكبيرة في جرائد أبيكم ، أتهجاها حرفا .. حرفا ، وأبوكم يضحك .
لكنه أصر أن يعلمني .. )
تعتدل في جلستها وتزيحنا بعيدا عن صدرها وتقول :
- هاتوا ورقة وقلما .
تجرى صباح وتحضر كراستها وقلمها .
تمسك جدتي بالقلم .
نراه يرتعش بين أصابعها ، ونرى اسم أبينا منقوشا فوق الصفحة البيضاء ودموعا غزيرة تبللها .
..........................
أمي تقول : إنها كتب أبي ، بعد أن استشهد في الحرب جمعتها.
وضعت ملابسها في رف ورصت الكتب واحتفظت بها في دولابها ، حتى عندما تأخذ سعاد كتابا لتقرأه لا تنام جدتي إلا بعد أن تطمئن أنها أعادته .
وحين تنتعش الحكايات على لسانها ويفارقها الصمت تقول : إن أبى كان يقرأ كثيرا ، من صغره يحب الكتب وينفق مصروفه عليها ، لم يكن مثل باقي أصحابه ، كان يقول :
- الكتب تعوضك عن كل شيء ..
لم يخرج مرة إلا وعاد ومعه كتابا جديدا .
حتى ساعة الحرب ، عندما كان يأتي في أجازة وأجهز طعاما ليأخذه معه لأصحابه وأضعه في الشنطة أجده يحمل كتبا معه ، وحين أقول له :
- يا ابني الكتب حتى في الحرب ؟!!
يضحك ويقول :
ـ اقرأها وقت الراحة ..
يسكت لحظة وأسمعه وكأنه يكلم نفسه :
ـ ليتنا قرأناها جيدا !.
ويعود ليقبل يدي ويرتمي في حضني ويتركنا إلى الجبهة .
***
سعاد تقول إن جدتي وصبارها يتشابهان .
لهما نفس الندوب الغائرة والحزن الشفيف .
أمي تقول إن جدتي هرمت ولم تعد تستطيع الذهاب لزيارة قبر أبيكم ، أحضرت الصبار ووضعته على إفريز نافذتها .
كنا نراها تعتني بها وترويها .
نطل عليها ، نرى شفتيها تتحركان وكأنها تتكلم مع أحد ، لكننا لا نسمعها ولا نجد غير صبارها .
بين حين وآخر كنا نراها تلقى أحزانها وترتدي فرحتها ، تفتح بابها وتنادى علينا في لهفة .
نترك حاجتنا ونهرع إليها .
تشير لنا فنبقى في أماكننا صامتين .
وتشير ناحية طائر أخضر صغير بجناحين أزرقين يحوم حول صبارها وتقول :
- روح أبيكم .
نرى الدموع تتراكم في عيني أمنا ، تتركنا وتهرول إلى حجرتها صامتة ..
ومن بعيد نسمع أنينا مكتوما .
سعاد تقول :
- لحظات الوجع تظل باقية في النفس .
كنا نرى الطائر الصغير يدخل حجرتها ويظل يحوم ويرفرف بجناحيه الصغيرين فوق سريرها ودولابها الخشبي القديم وحول وجهها ، وحين يتركنا نرى الدموع تسقط من عينيها ونسمع أنينها الممتد .
***
منذ ماتت جدتي ونحن ننتظر الطائر الصغير ..
نفتح شيش نافذتها الرمادي ، يفاجئنا صبارها الذي أصابه العطش وكساه التراب الناعم بنظرة قاسية .
نزيحه بأكفنا ونرويها ، لكنها كانت تذبل ...
نجلس على سرير جدتي .
صورة أبى تلح على رأسي .. لا أعرف سببا لإحساسي الشديد بفقده .
تحكى سعاد ما حفظته عن جدتنا من حكايات حتى تتعب .
نستلقي على ظهورنا ونراقب السحابة البيضاء فوق سرير جدتي ، نخرج الكتب القديمة ونقلب صفحاتها التي اصفرت ونشم رائحتها العتيقة ..
ونظل ننتظر طائرنا الصغير .
حافظة نقودي
أحمد طوسون
لم يعد الأمر خافيا على أحد في البيت أوفي العمل أو بين الجيران والأصحاب وصار موضوعا للحديث والتندر الذي لا ينضب .
رغم ذلك لم يخلُّ الأمر من استنكارات وتنديدات ومؤازرات لفظية لم تنفع في سد طلبات زوجتي اللحوحة التي لا تنتهي أو سداد إيجار الشقة وفواتير الكهرباء والمياه والتليفون ورسم الزبالة ( المتكدسة دوما بعتبة البيت ) ..
كما أنها لم تنفعني كثيرا في إقامة علاقات طبيعية وودودة مع صاحب محل الفول والفلافل الذي يقطن معي في العمارة التي أسكنها أو مع بائعي الخضار بسوق المنطقة .
وبالتأكيد لم أكن بحاجة لزيارة القصاب الذي لم أعتد بالأساس زيارته كثيرا ..
في المرات السابقة التي جعلتني الشخص الأشهر بين موظفي المصلحة لم تفلح الإجراءات والأحتياطات التي أتبعتها في تفادي المصير عينه !
هذه المرة أقترح أحدهم أن استأجر حارسا يتكفل بحمايتها .
أول الأمر كانت الفكرة مضحكة واستحلبت تعليقات وضحكات الزملاء ..
استئجار أحدهم يعني بدون تفكير التضحية براتب شهر أخر .
لكن مع اقتراب الموعد باتت الفكرة الصعبة هي الحل الوحيد والأخير للتخلص من الغموض الذي يكتنف اختفاء حافظتي مع أول كل شهر بمجرد انتفاخها بالورقات الخضراء حتى لو تطلب الأمر التضحية براتب شهر أخر ، ولن يكلفني الأمر أكثر من مراجعة واحد أو أكثر من مكاتب الأمن التي تطاردني إعلاناتها في كل مكان .
الطريق إلى الخزينة شاق وطويل ، أستغرق الوقت كله .
أمشي وراء الحارس خطوة بخطوة حتى وصلت في النهاية إليها ..
الموظف الأنيق مد يده من بين حديد نافذته وناولني ورقة وقلماً وأرشدني إلى المكان المناسب للتوقيع .. ثم عد الورقات الخضراء ودسها بين يدي وأطبق كفي عليها .
الحافظة الجديدة انتفخت عن أخرها .
الحارس الذي استأجرته ليوم كامل بدا مسيطرا على الموقف ولم يعطني الفرصة لتفحص الحافظة بعد امتلائها ـ كانت شروطه أن تكون له الكلمة الأولى والأخيرة ، الكلمة الفاصلة والحاسمة .
لم تكن فكرة سيئة حين أصر على أن نهبط طوابق المبنى المتعددة عن طريق السلم ورفض الهبوط عن طريق المصعد رغم آلام الفقرات القطنية التي تعاودني بين الحين والأخر.
لكنه بدا متسلطا حين منعني من مغازلة زميلتي الصاعدة أوحين منعني من مجرد النظر إلى أي امرأة أخرى تهبط أو تصعد أمامنا .
ولم يخف عن أحد متابعته الشرهة للصاعدات والهابطات برغم احتفاظه هو بالحافظة .
عندما استوقفني صاحب الاقتراح عند باب المجمع وسألني عن فكرته وهل أخذت بها منعني بغلظة من الرد عليه ! .
في الحقيقة كنت افتقد الرغبة في محادثة أحد ، فقد كانت الحافظة تسيطر على تفكيري وتكبلني لهفة الحصول عليها والفوز بها عن أي شيء آخر .
حين حاولت الوقوف في طابور الميكروباص أمام المجمع نهرني بشدة ، عنفني وسأل في تجهم لا داع له عن عنوان السكن .
ـ أبو قتادة
لم أجد تفسيرا واضحا لنظرة السخرية التي امتلأت بها عيناه ؟؟ ..
في الحقيقة هو في النهاية مجرد عامل استأجرته ليكون في خدمتي وحراسة أوراقي الخضراء وكنت أريد أن أُفهمه إنه من المؤكد ليس من ساكني الفيلات والشاليهات ولا يتوجب عليه أن يسخر من حالي ..
لكنني كنت أراجع نفسي وأكبح رغبتها في التمرد وأزحزح ملامح الغضب عن وجهي وأردد في نفسي :
- إنه مجرد يوم سيمر طال أم قصر ..
استوقف تاكسي وكنت قد شردت برهة ووجدته يفزع في بصورة بدت مهينة وانطلق التاكسي بعد أن احتلته امرأة بدينة ، عاود سخريته وامتعاضه قائلا:
- طبعا شيء جديد عليك !.
(يا ابن الكلب )
كنت أقولها في نفسي وأنا أعتذر بإيماءة وكلمة لم تكتمل عن شرودي .
هذه المرة حين استوقف التاكسي حشرني بجوار السائق وجلس في المؤخرة .
لم أكن أعرف سببا لمداومة السائق سباب كل من يقابله وتأففه المستمر ، نظرة التحدي التي طلت من عينيه حين ضبطني أفحص بنظراتي عداد السيارة عندما توقف في إشارة المرور .
الحارس اللعين لكزني تحت إبطي حين لمحني أتابع عُري المرأة التي تقود السيارة الواقفة إلى جوارنا .
هذه المرة التمست له عذرا وتساءلت بخجل عن استثارتي الصبيانية التي لا تناسب الموقف الذي أعيشه ؟!
السائق المستفز أشار إلى مفترق طرق وقال إنه لا يستطيع أن يدخل أكثر من هنا ..
ثمة صراع نشب بين الحارس والسائق حقق لي شيئا من التشفي وهبطنا بعده مترجلين المسافة الباقية .
قفزت إلى رأسي فكرة أن أعود إلي البيت حاملا كيسا أو أكثر من فاكهة الشتاء صارحته برغبتي ، تململ وتأفف وقال بصيغة آمره :
ـ اشترِّ ما تريده بعد انتهاء مهمتي .
عند اقترابنا من محل العصائر كان العطش قد استبد بي ، لكنني يأست من محاولاتي معه ، فاجئني واتجه ناحية المحل وحادثني دون اعتناء وقال :
ـ تشرب شيئا ؟؟
ـ يا ريت
وكان تصرفا غريبا عليه منذ عرفته في بواكير الصباح الفائت والأغرب إنه ناولني كوبا من التمر الهندي الذي أحبه وشرب هو كوكتيل الفاكهة .
أخيرا لاح البيت أمامنا .
استمر الحارس اللعين في معاودة التأفف - الذي لازمه منذ البداية - وهو يتفحص البيت وقال باشمئزاز :
ـ هذا هو العنوان ...؟!!
أومأت له برأسي فسبقني إلى داخل البيت ولم يعطني الفرصة لأحذره من طفح المجارى بمدخل البيت ، وكنت أسمع لعناته بدون اهتمام .. بصعوبة تجشأت بضع كلمات وقلت :
ـ الدور الرابع ..
السلم كان ضيقا ومظلما وشعرت بشيء من الحرج للصورة التي بدا عليها بيتنا ، لكنني على كل حال لا استقبل الغرباء كثيرا ..
بالكاد استطعت أن أسبقه إلى باب شقتي وإن سبقني إلى طرقه .
حين فتحت زوجتي الباب لم أعطه فرصة للدخول ، حشرت جسدي عند الباب وأمرت زوجتي أن تبدل جلبابها ألبيتي بآخر لا يظهر تفاصيل جسدها .
قبل أن يختار كرسيا يجلس عليه تفحص المكان جيدا ، بدا ودودا وهو يصافح زوجتي وولدنا الصغير وأخرج ورقة فئة العشرة جنيهات وأعطاها للصغير .
تركنا طفلي إلى باب الشقة دون مصافحتي أو الألتفات لنداءات أمه المتلاحقة ..
اقتربت زوجتي وهمست لي :
ـ هل نجحت هذه المرة ؟؟
بثقة مبالغ فيها وقبل أن أرد عليها خاطبها :
ـ اطمئني يا مدام ..
الأمور تسير على أحسن ما يرام
كان ثمة تغير طرأ على نظرة زوجتي لي .
انتظرت أن يعطيني الحافظة ، لكنه بدا وكأنه ينتظر شيئا ما ، استمر الصمت مسيطرا لفترة ، نظرت إلى زوجتي وقلت لها :
ـ اعملي لنا شايا
ـ انتوا أكلتوا ..
كان لسؤال زوجتي وقع الصدمة عليّ ، دائما ما تحاول توريطي ..
أسرع في الإجابة كأنه يحتفظ بالإجابة على طرف لسانه :
ـ لا
كان النهار قد انقضي ، و تعدت الساعة السادسة .
جرجرت زوجتي خطواتها وتخطت عتبة شقتنا والجوع عرف طريقة إلى معدتي وإن أبديت عدم الرضاء على توريطنا ..
وكنت أفكر فيما ستفعله زوجتي وأنا أعرف أنها لا تملك ما تشتري به طعاما .
مع مرور الوقت نشب شيء من الود بينه وبين محتويات الشقة وفوجئت به يشير ناحية المطبخ ...
ـ الحمام دا ؟
رددت بعفوية بغيضة وباستسلام تام وقلت :
ـ لا ..الذي بجواره
كنت أتفصد غيظا ، لكن الأمر الواقع فرض هيمنته عليّ وفوجئت به يناديني من الداخل :
ـ مفيش عندك بيجامه ألبسها
ـ لا
الملعون عجبه الحال ، هل يعتقد إنه بيت أبيه ؟!
مر الوقت بطيئا حتى خرج من الحمام يلف رأسه بمنشفتي الخاصة .
دون أن ينظر لي أو يعيرني اهتماما عبث بأزرار التلفاز وتمدد بجسده المفتول العضلات على الأريكة المواجهة له وأشعل سيجارة من علبة تبغي .
ـ سجاير مصري ..!!
ـ...................
ـ يا أخي التلفزيون ممل جدا
ـ .....................
ـ مفيش عندكوا فيديو
ـ لأ
بعد أن عادت زوجتي تحمل معها دجاجة مشوية فاحت رائحتها بالشقة ، لحقت بها عند المطبخ ، لكزتها وسألتها بعنف :
ـ منين ؟؟
ـ أتصرفت ..
ـ كيف ؟؟
ـ ليس الآن ...
عندنا ضيوف
ولم يكن بأية حال ضيفا نستقبله ، إنه مجرد أجير استأجرته لمهمة وانتهت وكان عليه أن يذهب ولا افهم سببا لعدم إعطائها لي حتى الآن ؟
بعد أن انتهينا من تناول العشاء ، ونجح وحده في الإجهاز على نصف الدجاجة وترك النصف الآخر لي ولزوجتي ولولدنا الصغير (الذي عاد بدوره إلى الشقة بعد أن أجهز على العشرة جنيهات وأصبح بينه وبين الحارس مودة لم أعتدها من طفلي الصغير مع الغرباء) .
أثناء إعداد زوجتي للشاي نفد صبري ووثب تساؤلي في وجهه :
ـ المهمة انتهت والحمد لله؟؟
قال ببرود وثقة :
- فعلا ..
كان يوما شاقا وطويلا لكن الحمد لله نجحنا .
لكنه لم يخرج الحافظة وبدا الأمر يدعو للشك والريبة .
- طيب آخذ المحفظة بقى ؟؟
- بالتأكيد ولكن نشرب الشاي أولا
- وما الداعي والشا ... ؟
لم أكمل جملتي حتى جاءت زوجتي ومعها الشاي وجلست معنا وشرعت تتبادل معه الحديث عن زوجته وأولاده وعمل المرأة والمدارس الخاصة والوظيفة والعمل الحر .. و..و.. وأشياء كثيرة أخرى لا أتذكرها بعد أن شردت مع كوب الشاي الذي يأبى أن ينتهي .
استطاع الغضب أن ينتصر عليّ فصرخت فيه :
- يا حضرة المهمة انتهت .
المحفظة لو سمحت .
ببرودة أعصاب وهدوء لم أعتده فيه ودون أن يفارق كوب الشاي يده لفظ بجملة قصيرة لم أسمعها ولا أعرف بالضبط ما الدافع وراء تحرك كل هذه الدماء إلى رأسي والقوة إلى جسدي ومباغتته وهو يجلس مسترخيا على كرسيه والقفز فوقه .
من أين واتتني القدرة على حمل جثمانه الضخم والهبوط به على درجات سلمنا التي اتسخت بطفح المجاري ودم أسود قميء وخرجنا إلى الشارع وأيادي كثيرة تحاول رفعي من فوقه وعيون أكثر ترقبنا من بعيد.
مشدوها كنت أرى الدماء تنز من جسده ورائحة عرق غزير تنفذ إلى داخلي فتلهب حماسي ، لم يستطع الناس منعي عنه ..
بصعوبة استطاع المسعف تخليصه من بين يدي وحمله إلى السيارة واستطاع الشرطي الوصول إليّ فأعطيته يدي مستسلما .
لم يكن وجهه طيبا أو مريحا ، ولم تكن وجوه الراكبين تظهر تعاطفا ما ناحيتي ، انحشرت وسطهم في العربة الجيب وهى تمرق بنا إلى القسم لكنني كنت أتنفس بهدوء وتراودني رغبة في إشعال سيجارة .
أحمد طوسون
لم يعد الأمر خافيا على أحد في البيت أوفي العمل أو بين الجيران والأصحاب وصار موضوعا للحديث والتندر الذي لا ينضب .
رغم ذلك لم يخلُّ الأمر من استنكارات وتنديدات ومؤازرات لفظية لم تنفع في سد طلبات زوجتي اللحوحة التي لا تنتهي أو سداد إيجار الشقة وفواتير الكهرباء والمياه والتليفون ورسم الزبالة ( المتكدسة دوما بعتبة البيت ) ..
كما أنها لم تنفعني كثيرا في إقامة علاقات طبيعية وودودة مع صاحب محل الفول والفلافل الذي يقطن معي في العمارة التي أسكنها أو مع بائعي الخضار بسوق المنطقة .
وبالتأكيد لم أكن بحاجة لزيارة القصاب الذي لم أعتد بالأساس زيارته كثيرا ..
في المرات السابقة التي جعلتني الشخص الأشهر بين موظفي المصلحة لم تفلح الإجراءات والأحتياطات التي أتبعتها في تفادي المصير عينه !
هذه المرة أقترح أحدهم أن استأجر حارسا يتكفل بحمايتها .
أول الأمر كانت الفكرة مضحكة واستحلبت تعليقات وضحكات الزملاء ..
استئجار أحدهم يعني بدون تفكير التضحية براتب شهر أخر .
لكن مع اقتراب الموعد باتت الفكرة الصعبة هي الحل الوحيد والأخير للتخلص من الغموض الذي يكتنف اختفاء حافظتي مع أول كل شهر بمجرد انتفاخها بالورقات الخضراء حتى لو تطلب الأمر التضحية براتب شهر أخر ، ولن يكلفني الأمر أكثر من مراجعة واحد أو أكثر من مكاتب الأمن التي تطاردني إعلاناتها في كل مكان .
الطريق إلى الخزينة شاق وطويل ، أستغرق الوقت كله .
أمشي وراء الحارس خطوة بخطوة حتى وصلت في النهاية إليها ..
الموظف الأنيق مد يده من بين حديد نافذته وناولني ورقة وقلماً وأرشدني إلى المكان المناسب للتوقيع .. ثم عد الورقات الخضراء ودسها بين يدي وأطبق كفي عليها .
الحافظة الجديدة انتفخت عن أخرها .
الحارس الذي استأجرته ليوم كامل بدا مسيطرا على الموقف ولم يعطني الفرصة لتفحص الحافظة بعد امتلائها ـ كانت شروطه أن تكون له الكلمة الأولى والأخيرة ، الكلمة الفاصلة والحاسمة .
لم تكن فكرة سيئة حين أصر على أن نهبط طوابق المبنى المتعددة عن طريق السلم ورفض الهبوط عن طريق المصعد رغم آلام الفقرات القطنية التي تعاودني بين الحين والأخر.
لكنه بدا متسلطا حين منعني من مغازلة زميلتي الصاعدة أوحين منعني من مجرد النظر إلى أي امرأة أخرى تهبط أو تصعد أمامنا .
ولم يخف عن أحد متابعته الشرهة للصاعدات والهابطات برغم احتفاظه هو بالحافظة .
عندما استوقفني صاحب الاقتراح عند باب المجمع وسألني عن فكرته وهل أخذت بها منعني بغلظة من الرد عليه ! .
في الحقيقة كنت افتقد الرغبة في محادثة أحد ، فقد كانت الحافظة تسيطر على تفكيري وتكبلني لهفة الحصول عليها والفوز بها عن أي شيء آخر .
حين حاولت الوقوف في طابور الميكروباص أمام المجمع نهرني بشدة ، عنفني وسأل في تجهم لا داع له عن عنوان السكن .
ـ أبو قتادة
لم أجد تفسيرا واضحا لنظرة السخرية التي امتلأت بها عيناه ؟؟ ..
في الحقيقة هو في النهاية مجرد عامل استأجرته ليكون في خدمتي وحراسة أوراقي الخضراء وكنت أريد أن أُفهمه إنه من المؤكد ليس من ساكني الفيلات والشاليهات ولا يتوجب عليه أن يسخر من حالي ..
لكنني كنت أراجع نفسي وأكبح رغبتها في التمرد وأزحزح ملامح الغضب عن وجهي وأردد في نفسي :
- إنه مجرد يوم سيمر طال أم قصر ..
استوقف تاكسي وكنت قد شردت برهة ووجدته يفزع في بصورة بدت مهينة وانطلق التاكسي بعد أن احتلته امرأة بدينة ، عاود سخريته وامتعاضه قائلا:
- طبعا شيء جديد عليك !.
(يا ابن الكلب )
كنت أقولها في نفسي وأنا أعتذر بإيماءة وكلمة لم تكتمل عن شرودي .
هذه المرة حين استوقف التاكسي حشرني بجوار السائق وجلس في المؤخرة .
لم أكن أعرف سببا لمداومة السائق سباب كل من يقابله وتأففه المستمر ، نظرة التحدي التي طلت من عينيه حين ضبطني أفحص بنظراتي عداد السيارة عندما توقف في إشارة المرور .
الحارس اللعين لكزني تحت إبطي حين لمحني أتابع عُري المرأة التي تقود السيارة الواقفة إلى جوارنا .
هذه المرة التمست له عذرا وتساءلت بخجل عن استثارتي الصبيانية التي لا تناسب الموقف الذي أعيشه ؟!
السائق المستفز أشار إلى مفترق طرق وقال إنه لا يستطيع أن يدخل أكثر من هنا ..
ثمة صراع نشب بين الحارس والسائق حقق لي شيئا من التشفي وهبطنا بعده مترجلين المسافة الباقية .
قفزت إلى رأسي فكرة أن أعود إلي البيت حاملا كيسا أو أكثر من فاكهة الشتاء صارحته برغبتي ، تململ وتأفف وقال بصيغة آمره :
ـ اشترِّ ما تريده بعد انتهاء مهمتي .
عند اقترابنا من محل العصائر كان العطش قد استبد بي ، لكنني يأست من محاولاتي معه ، فاجئني واتجه ناحية المحل وحادثني دون اعتناء وقال :
ـ تشرب شيئا ؟؟
ـ يا ريت
وكان تصرفا غريبا عليه منذ عرفته في بواكير الصباح الفائت والأغرب إنه ناولني كوبا من التمر الهندي الذي أحبه وشرب هو كوكتيل الفاكهة .
أخيرا لاح البيت أمامنا .
استمر الحارس اللعين في معاودة التأفف - الذي لازمه منذ البداية - وهو يتفحص البيت وقال باشمئزاز :
ـ هذا هو العنوان ...؟!!
أومأت له برأسي فسبقني إلى داخل البيت ولم يعطني الفرصة لأحذره من طفح المجارى بمدخل البيت ، وكنت أسمع لعناته بدون اهتمام .. بصعوبة تجشأت بضع كلمات وقلت :
ـ الدور الرابع ..
السلم كان ضيقا ومظلما وشعرت بشيء من الحرج للصورة التي بدا عليها بيتنا ، لكنني على كل حال لا استقبل الغرباء كثيرا ..
بالكاد استطعت أن أسبقه إلى باب شقتي وإن سبقني إلى طرقه .
حين فتحت زوجتي الباب لم أعطه فرصة للدخول ، حشرت جسدي عند الباب وأمرت زوجتي أن تبدل جلبابها ألبيتي بآخر لا يظهر تفاصيل جسدها .
قبل أن يختار كرسيا يجلس عليه تفحص المكان جيدا ، بدا ودودا وهو يصافح زوجتي وولدنا الصغير وأخرج ورقة فئة العشرة جنيهات وأعطاها للصغير .
تركنا طفلي إلى باب الشقة دون مصافحتي أو الألتفات لنداءات أمه المتلاحقة ..
اقتربت زوجتي وهمست لي :
ـ هل نجحت هذه المرة ؟؟
بثقة مبالغ فيها وقبل أن أرد عليها خاطبها :
ـ اطمئني يا مدام ..
الأمور تسير على أحسن ما يرام
كان ثمة تغير طرأ على نظرة زوجتي لي .
انتظرت أن يعطيني الحافظة ، لكنه بدا وكأنه ينتظر شيئا ما ، استمر الصمت مسيطرا لفترة ، نظرت إلى زوجتي وقلت لها :
ـ اعملي لنا شايا
ـ انتوا أكلتوا ..
كان لسؤال زوجتي وقع الصدمة عليّ ، دائما ما تحاول توريطي ..
أسرع في الإجابة كأنه يحتفظ بالإجابة على طرف لسانه :
ـ لا
كان النهار قد انقضي ، و تعدت الساعة السادسة .
جرجرت زوجتي خطواتها وتخطت عتبة شقتنا والجوع عرف طريقة إلى معدتي وإن أبديت عدم الرضاء على توريطنا ..
وكنت أفكر فيما ستفعله زوجتي وأنا أعرف أنها لا تملك ما تشتري به طعاما .
مع مرور الوقت نشب شيء من الود بينه وبين محتويات الشقة وفوجئت به يشير ناحية المطبخ ...
ـ الحمام دا ؟
رددت بعفوية بغيضة وباستسلام تام وقلت :
ـ لا ..الذي بجواره
كنت أتفصد غيظا ، لكن الأمر الواقع فرض هيمنته عليّ وفوجئت به يناديني من الداخل :
ـ مفيش عندك بيجامه ألبسها
ـ لا
الملعون عجبه الحال ، هل يعتقد إنه بيت أبيه ؟!
مر الوقت بطيئا حتى خرج من الحمام يلف رأسه بمنشفتي الخاصة .
دون أن ينظر لي أو يعيرني اهتماما عبث بأزرار التلفاز وتمدد بجسده المفتول العضلات على الأريكة المواجهة له وأشعل سيجارة من علبة تبغي .
ـ سجاير مصري ..!!
ـ...................
ـ يا أخي التلفزيون ممل جدا
ـ .....................
ـ مفيش عندكوا فيديو
ـ لأ
بعد أن عادت زوجتي تحمل معها دجاجة مشوية فاحت رائحتها بالشقة ، لحقت بها عند المطبخ ، لكزتها وسألتها بعنف :
ـ منين ؟؟
ـ أتصرفت ..
ـ كيف ؟؟
ـ ليس الآن ...
عندنا ضيوف
ولم يكن بأية حال ضيفا نستقبله ، إنه مجرد أجير استأجرته لمهمة وانتهت وكان عليه أن يذهب ولا افهم سببا لعدم إعطائها لي حتى الآن ؟
بعد أن انتهينا من تناول العشاء ، ونجح وحده في الإجهاز على نصف الدجاجة وترك النصف الآخر لي ولزوجتي ولولدنا الصغير (الذي عاد بدوره إلى الشقة بعد أن أجهز على العشرة جنيهات وأصبح بينه وبين الحارس مودة لم أعتدها من طفلي الصغير مع الغرباء) .
أثناء إعداد زوجتي للشاي نفد صبري ووثب تساؤلي في وجهه :
ـ المهمة انتهت والحمد لله؟؟
قال ببرود وثقة :
- فعلا ..
كان يوما شاقا وطويلا لكن الحمد لله نجحنا .
لكنه لم يخرج الحافظة وبدا الأمر يدعو للشك والريبة .
- طيب آخذ المحفظة بقى ؟؟
- بالتأكيد ولكن نشرب الشاي أولا
- وما الداعي والشا ... ؟
لم أكمل جملتي حتى جاءت زوجتي ومعها الشاي وجلست معنا وشرعت تتبادل معه الحديث عن زوجته وأولاده وعمل المرأة والمدارس الخاصة والوظيفة والعمل الحر .. و..و.. وأشياء كثيرة أخرى لا أتذكرها بعد أن شردت مع كوب الشاي الذي يأبى أن ينتهي .
استطاع الغضب أن ينتصر عليّ فصرخت فيه :
- يا حضرة المهمة انتهت .
المحفظة لو سمحت .
ببرودة أعصاب وهدوء لم أعتده فيه ودون أن يفارق كوب الشاي يده لفظ بجملة قصيرة لم أسمعها ولا أعرف بالضبط ما الدافع وراء تحرك كل هذه الدماء إلى رأسي والقوة إلى جسدي ومباغتته وهو يجلس مسترخيا على كرسيه والقفز فوقه .
من أين واتتني القدرة على حمل جثمانه الضخم والهبوط به على درجات سلمنا التي اتسخت بطفح المجاري ودم أسود قميء وخرجنا إلى الشارع وأيادي كثيرة تحاول رفعي من فوقه وعيون أكثر ترقبنا من بعيد.
مشدوها كنت أرى الدماء تنز من جسده ورائحة عرق غزير تنفذ إلى داخلي فتلهب حماسي ، لم يستطع الناس منعي عنه ..
بصعوبة استطاع المسعف تخليصه من بين يدي وحمله إلى السيارة واستطاع الشرطي الوصول إليّ فأعطيته يدي مستسلما .
لم يكن وجهه طيبا أو مريحا ، ولم تكن وجوه الراكبين تظهر تعاطفا ما ناحيتي ، انحشرت وسطهم في العربة الجيب وهى تمرق بنا إلى القسم لكنني كنت أتنفس بهدوء وتراودني رغبة في إشعال سيجارة .
عندما لا تموء القطط
أحمد طوسون
هوت انفجارات متتالية فتراكمت سحب كثيفة من الدخان وتصاعدت ألسنة لهب .
تشتت المتظاهرون في أروقة البيوت المتهدمة يحملون جثث الشهداء وبقيت قطة صغيرة فزعة وحائرة ووحيدة بين أطلال الجحيم .
منذ أيام تهدم البيت الذي تسكنه ، ولم يعد صاحبها ، ولم تصادف قطة من بني جنسها تؤنس وحدتها ، ولم تجد طعاما يشبع جوعها .
تلمست بمخالبها الأرض ، بعيدا عن الدماء الساخنة والجمرات التي تتساقط من البيوت وتشممت المكان بحثا عن شيء يصلح كطعام .
سعلت من بقايا دخان ثم وقفت حائرة .
أرهفت سمعها فسمعت خربشة واهية ، تطلعت إلى صندوق قمامة مغلق ولهثت ، قالت :
- ربما أجد طعاما وسط المخلفات
أو فأرا يبحث مثلي عن طعام .
اقتربت حذرة .
رفعت غطاء الصندوق وتعلقت بحوافه ، بحلقت بعينيها البرقيتين إلى القاع المظلم فرأت عينين تلمعان .
فرحت ، قالت :
- لابد أن كائنا حيا مازال هناك .
على الأقل لن أكون وحيدة .
قفزت إلى القاع و أثارت جلبة تردد صداها بالمكان .
تلمست الكائن المنزوي هناك وتشممت رائحته بينما سمعت مواء متقطعا وعميقا .
نسيت جوعها ووحدتها وحيرتها وسألته :
- لِم تبكي أيها العجوز ؟؟
فتح عينيه فلمعتا في الظلام .
- ظننت أنه لم يبق غيري في هذه المدينة !
ربتت على ظهره ، تلمست دمامل وجروحا قديمة .
وخزه ألم لكنه كان سعيدا بمؤانستها له .
قالت :
- أنا جائعة
قال:
- ألا يوجد طعام في الشوارع ؟!!
قالت :
- لا يوجد إلا جثث الشهداء ..
تذكر أنه لم يذق طعاما منذ أيام نسى عددها ، فعوى .
تذكرت بيتها الذي تهدم وصاحبها الذي خرج إلى مدرسته ولم يعد ، قالت :
- أنا وحيدة ..
تذكر العجوز التي كانت تحنو عليه حين قتلها المحتلون ، رائحة شواء صغاره داخل البيت ، الشظايا التي أصابته والجحيم الذي فر منه ..
- أتخذيني أبا .
سمعا أصوات بعيدة تقترب .
عرف إنها بشائر انتفاضة جديدة ، مظاهرات وحجارة وأزيز هليكوبتر تحلق في السماء ومدرعات تزوم من بعيد .
قالت :
- أنا خائفة .
ضمها إلى صدره وقال :
- يمكنك الاختباء فيه
دخان كثيف كاد يخنقهما .
هرولة ، صوت حجارة ودوى مدافع وصفير طلقات في الهواء ..
ثورة واشتعال ثم سكون .
بعدها عاد الصمت المطبق وعادت الشوارع إلى وحشتها .
فتح عينيه بعد أن أغمضهما فوجد نورا يشق ظلام القاع وظلالا لشمس بعيدة في الأفق .
اشتاق إلى الشوارع المضيئة والأنوار الساطعة وبستان أخضر وابتسامة عجوز أو فتاة وكف طفل يداعب ظهره بأنامله .
ربت عليها بين أحضانه وقال :
ـ يبدو أنه الصباح ..
لم ترد عليه أحس بها كومة باردة في أحشائه .
بحث عن مصدر الضوء ، لمح ثقبا صغيرا يسمح بمرور رصاصة وحيدة إلى داخل الصندوق وأحس سرسوبا من الدم يسرى تحته .
أصابته رعشة وأحس غصة في حلقه ، ورغبة في قيء جارف ..
زام وعوى وخرج منه مواء طويل حاد ما زال يتردد في المدينة .
أحمد طوسون
هوت انفجارات متتالية فتراكمت سحب كثيفة من الدخان وتصاعدت ألسنة لهب .
تشتت المتظاهرون في أروقة البيوت المتهدمة يحملون جثث الشهداء وبقيت قطة صغيرة فزعة وحائرة ووحيدة بين أطلال الجحيم .
منذ أيام تهدم البيت الذي تسكنه ، ولم يعد صاحبها ، ولم تصادف قطة من بني جنسها تؤنس وحدتها ، ولم تجد طعاما يشبع جوعها .
تلمست بمخالبها الأرض ، بعيدا عن الدماء الساخنة والجمرات التي تتساقط من البيوت وتشممت المكان بحثا عن شيء يصلح كطعام .
سعلت من بقايا دخان ثم وقفت حائرة .
أرهفت سمعها فسمعت خربشة واهية ، تطلعت إلى صندوق قمامة مغلق ولهثت ، قالت :
- ربما أجد طعاما وسط المخلفات
أو فأرا يبحث مثلي عن طعام .
اقتربت حذرة .
رفعت غطاء الصندوق وتعلقت بحوافه ، بحلقت بعينيها البرقيتين إلى القاع المظلم فرأت عينين تلمعان .
فرحت ، قالت :
- لابد أن كائنا حيا مازال هناك .
على الأقل لن أكون وحيدة .
قفزت إلى القاع و أثارت جلبة تردد صداها بالمكان .
تلمست الكائن المنزوي هناك وتشممت رائحته بينما سمعت مواء متقطعا وعميقا .
نسيت جوعها ووحدتها وحيرتها وسألته :
- لِم تبكي أيها العجوز ؟؟
فتح عينيه فلمعتا في الظلام .
- ظننت أنه لم يبق غيري في هذه المدينة !
ربتت على ظهره ، تلمست دمامل وجروحا قديمة .
وخزه ألم لكنه كان سعيدا بمؤانستها له .
قالت :
- أنا جائعة
قال:
- ألا يوجد طعام في الشوارع ؟!!
قالت :
- لا يوجد إلا جثث الشهداء ..
تذكر أنه لم يذق طعاما منذ أيام نسى عددها ، فعوى .
تذكرت بيتها الذي تهدم وصاحبها الذي خرج إلى مدرسته ولم يعد ، قالت :
- أنا وحيدة ..
تذكر العجوز التي كانت تحنو عليه حين قتلها المحتلون ، رائحة شواء صغاره داخل البيت ، الشظايا التي أصابته والجحيم الذي فر منه ..
- أتخذيني أبا .
سمعا أصوات بعيدة تقترب .
عرف إنها بشائر انتفاضة جديدة ، مظاهرات وحجارة وأزيز هليكوبتر تحلق في السماء ومدرعات تزوم من بعيد .
قالت :
- أنا خائفة .
ضمها إلى صدره وقال :
- يمكنك الاختباء فيه
دخان كثيف كاد يخنقهما .
هرولة ، صوت حجارة ودوى مدافع وصفير طلقات في الهواء ..
ثورة واشتعال ثم سكون .
بعدها عاد الصمت المطبق وعادت الشوارع إلى وحشتها .
فتح عينيه بعد أن أغمضهما فوجد نورا يشق ظلام القاع وظلالا لشمس بعيدة في الأفق .
اشتاق إلى الشوارع المضيئة والأنوار الساطعة وبستان أخضر وابتسامة عجوز أو فتاة وكف طفل يداعب ظهره بأنامله .
ربت عليها بين أحضانه وقال :
ـ يبدو أنه الصباح ..
لم ترد عليه أحس بها كومة باردة في أحشائه .
بحث عن مصدر الضوء ، لمح ثقبا صغيرا يسمح بمرور رصاصة وحيدة إلى داخل الصندوق وأحس سرسوبا من الدم يسرى تحته .
أصابته رعشة وأحس غصة في حلقه ، ورغبة في قيء جارف ..
زام وعوى وخرج منه مواء طويل حاد ما زال يتردد في المدينة .
نادرا ما تمطر ليلة العيد
أحمد طوسون
واقف في شرفتك ، تطل علي الشارع المسكون بشبح يسعل سنوات الكهولة ، وعجوز تنبش بين الركام عن شباب ولي ، وامرأة تحمل صاجات الكعك ، وطفلان يحاولان التغلب على العتمة والصقيع بضوء الفانوس الملون ، وضجيج أجهزة التلفاز المنبعث من البيوت .
واقف وتلك الانقباضة التي تشبه مقصلة تقطع نشيج قلبك .
حبات مطر بارد تتساقط من نافذة الشرفة علي الرصيف ورذاذ يدغدغ قلبك ، ترسم شوارع أخرى .
تهرب من عينيك الصورة ، وتسكنك ثرثرة زوجك مع أختها عبر الهاتف ، وارتعاشة ريح باردة ترج جسدك .
تغلق النافذة .
لكن جسدك على ارتعاشه لا يهدأ ، وجسد زوجك أمامك مشحون وممتليء بارتعاشات كثيرة ، ارتعاشات تفتقد ذلك البريق القديم .
تهرب منه إلي شماعة الحائط وأزرار قميصك التي ترتجف ...وتدعو الله ألا يكون العيد غدا ..
ـ أنت هتخرج ؟!
قالتها وهى تحتفظ بالسماعة على أذنها .
ـ افتكرت موعدا هاما
ـ متتأخرش ، بكره العيد
ـ لسه محدش عارف
تغلق خلفك الباب ، وتفتح الشوارع لخطواتك ..
كل هذا الضجيج والأنوار والزينات وتفتقد شيئا ما ، شيئا أثيرا يحرك الحياة داخلك ، شيئا يدفعك سنوات إلى الوراء ...
ورق الزينة ، فوانيس الشمع ، الصحبة ومباريات الفجر ، مدفع الإفطار ... ترى إلي أي بقعة مظلمة توارت الأيام البعيدة ، ولماذا تحكم المقصلة حد سكينها على قلبك ؟
على الرغم من ازدحام المحلات والشوارع ، الوجوه تفتقد بهجتها ، تفتقد ملامح الدفء ، الصقيع يحفر وجوها جهمة .
كنت دائما تشترى لها فانوسا جديدا ، تستقبله كطفلة فرحة بأول فانوس ..
أمام أحد المحلات تقف تتأمل عرائس العرض ، لها الوجوه نفسها التي حفرها الصقيع ، هذا الفستان ربما يعيد البهجة إلي جسدها ، ربما يعيد تشكيل الارتعاشات .
القميص الأزرق دائما ما تقع عيناك عليه ...
نادية تحب العرائس ....
أحيانا ما تكون هي عروسا جميلة .
الأكياس ثقلت بين يديك ، تبتسم لتذكر مقولة أحدهم إن الشراء يضفي متعة ما ، رغبة ما في الامتلاك ...
على مقهى صغير تجلس ، زينة رمضان تغطي سقف الشارع الضيق ، لكنها لا تمنع زخات المطر من السقوط على الأرصفة كقطع زجاج صغيرة وحادة .
ـ بكره صيام ؟؟
سأل أحدهم .
ـ لسه مقالوش ...
تتذكر أطفال الشارع ..
مصروفكم الذي تحتفظون به لشراء فانوس كبير تضعونه على ناصية شارعكم ، أحلامكم أن يمتلك كل واحد منكم فانوسا كبيرا فوق سقف بيته ، فوانيسكم الصغيرة تصحبكم إلي صلاة التراويح وصلاة الفجر .
فتحت أحد الأكياس وتفحصت الفانوس وتساءلت إن كان سيعجب زوجك .
لم تعد تحس لسعة البرد ، الشارع بدا أكثر زحاما بصاجات الكعك والأكياس المزدحمة بملابس العيد .
قبل عودتك إلى البيت تذكرت أنك لم تشتر شيئا للسحور .
زبادي ، جبن رومي ، بسطرمة .
كان والدك يرسلك إلى بائعة الفول بخمسة قروش ، الآن تستطيع أن تجد أشياء كثيرة تصلح للسحور ...
حينما فتحت الباب كانت زوجك مازالت تثرثر عبر الهاتف ، تفحصت عيناها الأكياس جيدا وقالت :
ـ ماما بتسلم عليك وبتقولك كل سنة وأنت طيب .
فتحت الأكياس ، ظلت لفترة تحملق في المرآة وتضع الفستان أمام جسدها ، وضعت الجبن والبسطرمة والزبادي على المنضدة .
ـ فول .. أنت عارف أني مبحبوش .
أخرجت الفانوس ووضعته على السرير .
ـ ما قلتلك اشتري فانوس لحازم أخويا ..
جايبه النهارده ، وبكره العيد !
كنت تفك أزرار قميصك وهى تمسك بقميصك الأزرق الجديد ، وتقول :
ـ دا نفس لون القميص اللي عليك ..
كنت هات لونه فاتح شويه .
بينما كنت تفتح نافذة شرفتك ، كانت زوجك تضع الفستان أمام جسدها وتنظر إلى نفسها في المرآة .
ـ شكله هيطلع ضيق جدا !
وأنت تقف في شرفتك ، تطل على الشارع المسكون بأطفال كثيرين يحملون فوانيس صغيرة ، وتتأرجح فوق شجرة من وهم ، والسماء تسقط رذاذا على صاجات الكعك ، وكلاب تنبح .
نوافذ البيوت مغلقة ومعتمة ، وزوجك تقترب منك بقميصها الأحمر ...
القميص عينه الذي اعتادت أن ترتديه كلما جاءت الأعياد .
اقتربت من تفاصيل جسدك ، صعدت يداها إلى الأماكن التي اعتادت ملامستها وهى تهمس لك :
ـ كل سنة وأنت طيب .
كنت تغلق النافذة والمطر يزداد غزارة وعيناك تتابعان العروس والفانوس ملقيين على الأرض بجوار قميصك الأزرق ، ويد زوجك تلتف حول عنقك وتشدك إلى السرير .
تطفيء نور الحجرة ، والارتعاشات الرتيبة عينها تغزو جسدك .
لكنك كنت تسمع الأطفال وهم يهرولون بفوانيسهم تحت المطر ، وتعاودك تلك الانقباضة .
أحمد طوسون
واقف في شرفتك ، تطل علي الشارع المسكون بشبح يسعل سنوات الكهولة ، وعجوز تنبش بين الركام عن شباب ولي ، وامرأة تحمل صاجات الكعك ، وطفلان يحاولان التغلب على العتمة والصقيع بضوء الفانوس الملون ، وضجيج أجهزة التلفاز المنبعث من البيوت .
واقف وتلك الانقباضة التي تشبه مقصلة تقطع نشيج قلبك .
حبات مطر بارد تتساقط من نافذة الشرفة علي الرصيف ورذاذ يدغدغ قلبك ، ترسم شوارع أخرى .
تهرب من عينيك الصورة ، وتسكنك ثرثرة زوجك مع أختها عبر الهاتف ، وارتعاشة ريح باردة ترج جسدك .
تغلق النافذة .
لكن جسدك على ارتعاشه لا يهدأ ، وجسد زوجك أمامك مشحون وممتليء بارتعاشات كثيرة ، ارتعاشات تفتقد ذلك البريق القديم .
تهرب منه إلي شماعة الحائط وأزرار قميصك التي ترتجف ...وتدعو الله ألا يكون العيد غدا ..
ـ أنت هتخرج ؟!
قالتها وهى تحتفظ بالسماعة على أذنها .
ـ افتكرت موعدا هاما
ـ متتأخرش ، بكره العيد
ـ لسه محدش عارف
تغلق خلفك الباب ، وتفتح الشوارع لخطواتك ..
كل هذا الضجيج والأنوار والزينات وتفتقد شيئا ما ، شيئا أثيرا يحرك الحياة داخلك ، شيئا يدفعك سنوات إلى الوراء ...
ورق الزينة ، فوانيس الشمع ، الصحبة ومباريات الفجر ، مدفع الإفطار ... ترى إلي أي بقعة مظلمة توارت الأيام البعيدة ، ولماذا تحكم المقصلة حد سكينها على قلبك ؟
على الرغم من ازدحام المحلات والشوارع ، الوجوه تفتقد بهجتها ، تفتقد ملامح الدفء ، الصقيع يحفر وجوها جهمة .
كنت دائما تشترى لها فانوسا جديدا ، تستقبله كطفلة فرحة بأول فانوس ..
أمام أحد المحلات تقف تتأمل عرائس العرض ، لها الوجوه نفسها التي حفرها الصقيع ، هذا الفستان ربما يعيد البهجة إلي جسدها ، ربما يعيد تشكيل الارتعاشات .
القميص الأزرق دائما ما تقع عيناك عليه ...
نادية تحب العرائس ....
أحيانا ما تكون هي عروسا جميلة .
الأكياس ثقلت بين يديك ، تبتسم لتذكر مقولة أحدهم إن الشراء يضفي متعة ما ، رغبة ما في الامتلاك ...
على مقهى صغير تجلس ، زينة رمضان تغطي سقف الشارع الضيق ، لكنها لا تمنع زخات المطر من السقوط على الأرصفة كقطع زجاج صغيرة وحادة .
ـ بكره صيام ؟؟
سأل أحدهم .
ـ لسه مقالوش ...
تتذكر أطفال الشارع ..
مصروفكم الذي تحتفظون به لشراء فانوس كبير تضعونه على ناصية شارعكم ، أحلامكم أن يمتلك كل واحد منكم فانوسا كبيرا فوق سقف بيته ، فوانيسكم الصغيرة تصحبكم إلي صلاة التراويح وصلاة الفجر .
فتحت أحد الأكياس وتفحصت الفانوس وتساءلت إن كان سيعجب زوجك .
لم تعد تحس لسعة البرد ، الشارع بدا أكثر زحاما بصاجات الكعك والأكياس المزدحمة بملابس العيد .
قبل عودتك إلى البيت تذكرت أنك لم تشتر شيئا للسحور .
زبادي ، جبن رومي ، بسطرمة .
كان والدك يرسلك إلى بائعة الفول بخمسة قروش ، الآن تستطيع أن تجد أشياء كثيرة تصلح للسحور ...
حينما فتحت الباب كانت زوجك مازالت تثرثر عبر الهاتف ، تفحصت عيناها الأكياس جيدا وقالت :
ـ ماما بتسلم عليك وبتقولك كل سنة وأنت طيب .
فتحت الأكياس ، ظلت لفترة تحملق في المرآة وتضع الفستان أمام جسدها ، وضعت الجبن والبسطرمة والزبادي على المنضدة .
ـ فول .. أنت عارف أني مبحبوش .
أخرجت الفانوس ووضعته على السرير .
ـ ما قلتلك اشتري فانوس لحازم أخويا ..
جايبه النهارده ، وبكره العيد !
كنت تفك أزرار قميصك وهى تمسك بقميصك الأزرق الجديد ، وتقول :
ـ دا نفس لون القميص اللي عليك ..
كنت هات لونه فاتح شويه .
بينما كنت تفتح نافذة شرفتك ، كانت زوجك تضع الفستان أمام جسدها وتنظر إلى نفسها في المرآة .
ـ شكله هيطلع ضيق جدا !
وأنت تقف في شرفتك ، تطل على الشارع المسكون بأطفال كثيرين يحملون فوانيس صغيرة ، وتتأرجح فوق شجرة من وهم ، والسماء تسقط رذاذا على صاجات الكعك ، وكلاب تنبح .
نوافذ البيوت مغلقة ومعتمة ، وزوجك تقترب منك بقميصها الأحمر ...
القميص عينه الذي اعتادت أن ترتديه كلما جاءت الأعياد .
اقتربت من تفاصيل جسدك ، صعدت يداها إلى الأماكن التي اعتادت ملامستها وهى تهمس لك :
ـ كل سنة وأنت طيب .
كنت تغلق النافذة والمطر يزداد غزارة وعيناك تتابعان العروس والفانوس ملقيين على الأرض بجوار قميصك الأزرق ، ويد زوجك تلتف حول عنقك وتشدك إلى السرير .
تطفيء نور الحجرة ، والارتعاشات الرتيبة عينها تغزو جسدك .
لكنك كنت تسمع الأطفال وهم يهرولون بفوانيسهم تحت المطر ، وتعاودك تلك الانقباضة .
فصـــــــــل 2/1
أحمد طوسون
حضرة الناظرة دخلت فصلنا، كل مرة تأخذ واحدا منا وتخرج، ثم تعود بمفردها لتأخذ آخر.
أبلة بشات مدرسة الحساب تركت الكتاب والطباشير وقالت:
- قيام
حضرة الناظرة لم تكن معها ابتسامتها الطيبة حين قالت:
- جلوس
بدت شاحبة وهزيلة على غير عادتها، تتكلم مع أبلة بشات وتتساقط قطع المرارة المكتنزة بعينيها قطرات صغيرة على الأرض.
البنت ميرفت تنقل الدرس من السبورة إلى كراستها وحسام خطف سندوتش نجوى..
حضرة الناظرة نادت على اسمي فوقفت، وتوقفت ميرفت عن نقل الدرس، وترك حسام سندوتش نجوى.
حضرة الناظرة قالت للأولاد في الفصل:
- قولوا لزميلكم مع السلامة.
ميرفت لم تقل - مع باقي الفصل - مع السلامة، أبلة بشات ضمتني إليها ونظرت إلي حضرة الناظرة ومسحت دمعة سحت من عينيها وقالت:
- كان أشطر ولد في الفصل!
***
كل صباح أنتظرها عند آخر شارعنا، تتشابك أصابعنا الصغيرة ونطوح بأيادينا عاليا حتى تلامس السماء.
في الميدان نلتقي وباقي الأصحاب ننتشر ونتسابق كجرذان فزعة حتى باب المدرسة.
منذ فترة يحرص الآباء والأمهات على اصطحابنا إلى باب المدرسة، ننفلت من أياديهم الخشنة ونقفز إلى الساحة، أظل أبحث عنها بين الرؤوس السوداء الصغيرة حتى نلتقي في طابور الصباح وتقف بجواري.
على درجات السلم تفلت مني وتسبقني إلى احتلال مكانها بمقعدنا المشترك ولا نفترق إلا عند أول شارعنا آخر النهار.
اليوم عندما أخذتني حضرة الناظرة من الحصة الثانية، سألتني ميرفت:
ـ هترجع نروح سوا؟
لم أعرف بمَ أجيبها، ابتلعت صمتي وعبرت نظراتها ونظراتهم وسرت حتى نهاية الفصل وأنا أفكر في زملائي الذين خرجوا ولم يعودوا ثانية إلى الفصل.
عند الباب شعرت بانقباض وغصة في قلبي لم أعرف سببها ولمحت كائنات صغيرة ترتعب في وجوههم.
***
عندما نزلنا سلم المبني القديم إلى فناء المدرسة كان عم حسن يدق جرس الحصة الثانية.
بعد برهة سمعنا انفجارا مدويا وأحسسنا بارتجاج الأرض تحتنا.
حضرة الناظرة لقفتني إلى حضنها.. لم يمر وقت وتلقفني أبى من حضرة الناظرة إلى حضنه ويديه الخاليتين من سندوتشات الجبن البيضاء ومربى التين أو زمزمية الماء.
سلم أبي على حضرة الناظرة وصحبني معه.
عند باب المدرسة الحديدي لم أجد أثرا لفاترينة عم شعبان ولم يكن هناك أحد من باعة الحلوى.
كان أبي يربت على ظهري عندما تلاقت عينانا وقلت له:
- بابا باقي حصة على الفسحة..؟!!
لكنه لم ينظر إليّ ونحن نترك شارع المدرسة إلى الميدان ولم يتكلم.
***
بلون الرماد تكون نهارات ديسمبر وبطعم الشجن تتزين غماماته الكثيفة، كنت أشعر بالحمى تسري إلي جسدي وسخونة جلدي تلسعني كلما لامسني الهواء الندي وثمة شيء بداخلي يقارب على الانفجار.
الشوارع خالية وكئيبة.. حوائط كثيرة متهدمة تسد الطريق أمامنا..عربات باللون الكاكي تربض من بعيد فأشعر بالاختناق.
لم أكن أستطيع التخلص من البلوفر الأزرق الذي صنعته أمي أو حقيبة كتبي المعلقة فوق ظهري، وأشعر بأياد خفية تلتف حول عنقي وتحاول خنقي وأنا لا أستطيع أن ألقي بحقيبة الكتب إلى الأرض حتى لا يغضب أبي ولا أن أرتدي القميص الرمادي الذي اشتراه في عيد ميلادي وأترك البلوفر الأزرق منعا لمخالفة أوامر أمي بخصوص نزلات البرد والسعال الذي ينتابني.
***
عند البيت كانت تتشح بالسواد وحولها تلتف نساء جيراننا، حقائبنا الكبيرة التي سكنت سطوح دولابنا خرجت عند عتبة بابنا ووقفت منتفخة بصحبة حقائب جيراننا.
أناس كثيرون اختطفوني إلى أحضانهم، ونساء كثيرات كن يقبلنني ويبكين.
منذ موت جدي لم أر أمي بهذه الحالة ولم أر كلَّ هؤلاء في شارعنا والفزع يتصيد وجوههم التعبة.
كانوا يتحدثون عن النوافذ الزرقاء والغارات الغاشمة والتهجير والمقاومة الشعبية والنوارس التي لم تعد تحلق في سماء القنال.
لم أسأل أمي عن سبب بكائها ولم أسأل أحدا من جيراننا.. لكنني كنت أبكي مثلهم دون أن أعرف السبب.
***
- إمتى الحرب تخلص؟؟!
كانت المرأة تسأل جارتها في العربة المكتظة بنا وأمي تبتلع دموعها في صمت موحش وتلتصق بجسدي الصغير وتحوط عنقي بيديها الدافئتين..لا أعرف لِم أحسست أنها تبحث عندي عن شيء افتقدته.
كانت الأجساد تنحشر وتتدافع في العربة وأبى يلوح لنا وعلى وجهه دموع ثقيلة وعربات كثيرة حولنا تتكدس بالحقائب الكبيرة ووجوه كثيرة أعرفها بدت وكأنها غريبة عني.
العربة تمرق بجوار بيوتنا المهجورة وصدى أنين بعيد يخطف قلبي.
أمي تعبث في شعري وأحس بدقات قلبها تقصف جوارحي وعيناها تلمعان رعبا من حركة شفتي.
- هو بابا مش هاييجي معانا؟
- لأ...
- ليه يا ماما ؟..
أحنا رايحيين فين؟؟
- مش عارفة..
ساعتها كان صوتها يئن بشجن طائر ذبيح وسقطت دموعها الباردة على وجهي.
- ومش هروح المدرسة؟؟
- هتروح..
لا أعرف لِم لمْ أصدق أمي وغمرني أحساس بفقد ميرفت والمدرسة وبفقد أشياء كثيرة أحبها.
تدافعت الأسئلة إلى رأسي تسألني عن سبب تركنا لبيتنا ومدرستي وكل الذين أحبهم. لكنني حين نظرت إلي أمي ارتعدت من العتمة المكومة في عينيها فالتصقت بجسدها الشاحب وعبرت نظراتها الفزعة إلى الرمال المتدفقة حولنا أتابع ركضها المستمر خلفنا.
***
بباب حديدي كبير وسور عال وحديقة كبيرة وصالة فارعة تتسع لكل زملائي في الفصل وحجرات كثيرة وأخري خاصة بي - بها سرير نظيف ومكتب ودولاب يمتلأ بالملابس الجديدة واللعب الجميلة وراديو صغير- كان بيتنا.
ولا أعرف سببا لوجودنا هنا في هذه الحجرة الضيقة مع كل هؤلاء..
أحب أن أكون مع أبي في بيتنا وأكره هذه الحجرة الباردة، وهؤلاء الناس وأغطيتهم الخشنة وخبزهم الجاف ومعلباتهم المرة.
***
منذ جئنا إلي هنا لم نترك هذا المكان القذر..
ولم أر على وجه أمي ابتسامتها الطيبة..
بين الحين والحين كنا نسمع نساء جيراننا يتحدثن عن القادمين من السويس، وأخبار القتال وأفواج التهجير التي تتوالى.
اسأل أمي عن أبي الذي لم يعد حتى الآن، لكنها تتركني ولا تجيب!.
اليوم قبلتني أمي وقالت:
- ألبسْ علشان نروح المدرسة.
بعيون مدهشة كنت أراقبها وهي تفك أزرار بيجامتي، واستسلمت لمشاعري وهي تنسج فرحتها على خيوطي.
عبثا كنت أحاول إبعاد صورة أبي وهو يحمل سندوتشات الجبن والمربى وينتظرني عند باب المدرسة.
ميرفت.. وعم حسن.. وحضرة الناظرة وأبلة بشات، عبثا كنت أحاول أبعادهم عن طريقي حتى أرتدي ملابسي.
بلعت فرحتي وتأهبت ليوم مبهج وأقسمت هذه المرة أن أسبق ميرفت إلى احتلال مقعدنا حتى تفاجأ بي.
انتهيت من ارتداء ملابسي وسألت أمي إن كان أبي سيحضر ويأخذنا إلى بيتنا أم سينتظرنا هناك بسندوتشات الجبن والمربى؟
أنَّتْ أمي ولم تنظر لي وهي تقول:
- لا..
أنت هتروح المدرسة الجديدة.
***
كان الراديو يهتز فوق المنضدة وأمي تنصت بلهفة لصوت المذيع بعد أن وضعت البطاريات الجديدة التي اشترتها من بقالة عم لطفي بأول الشارع ورفض عم لطفي أن يأخذ ثمنها وتدير المؤشر ليصبح أكثر وضوحا.
لا أعرف لِم تذكرت عمي عاصم..
حين دق بابنا ذات يوم أحدهم ومعه بعض المتعلقات التي تخص عمى عاصم وما قاله عن استشهاده في العمليات.
ارتدت أمي السواد وبكى أبى كطفل صغير ينهنه وابتلعت جدتي حسرتها وتحدثت عن أحلامه التي لم يحقق شيئا منها وعروسه التي لم تهنأ به.
أبي وما قاله عن وجوده الآن بصحبة الملائكة والصحابة.
وحين تمنيت أن أكون معه ومع الملائكة ضربت أمي صدرها بكفها وشدتني إلى حضنها وقالت:
- ألف بعد الشر يا حبيبي..
ربنا يحرقهم الكفرة.
أغلقت أمي الراديو ومسحت دمعة علقت على خدها وضمتني إليها.
كنت أحاول الإفلات من قبضة ذراعيها حين قلت:
- ماما هو بابا هيرجع امتى؟
- .....................
- ماما أنا مش عاوز أروح المدرسة الجديدة.
ضغطت علي أمي وضمتني إلى حنانها وارتكنت بي إلى حضن الجدار وظلت تحملق في صورة أبي المعلقة هناك طيلة النهار.
***
بعد يومين عادت أمي وقالت:
- إن كنت تحب بابا تعال نروح المدرسة.
- بابا وحشني قوي يا ماما..
هو هيرجع امتى؟!
- هيرجع يا حبيبي....
- ..............
- بإذن الله هيرجع.
وأنا كنت أحب أبي ولا أريده أن يغضب لعدم ذهابي إلى المدرسة، وكنت أريد أن أقول له إنه وحشني جدا وإنني لن أكلمه عندما يأتي لأنه تركني ولم يأخذني معه..
وفكرت أنه من المؤكد بالمدرسة الجديدة توجد حضرة الناظرة وأبلة بشات وميرفت أيضا..
فعدت ووافقت.
***
عند باب المدرسة استقبلنا آخر لا يشبه العم حسن، وحين أمسك بكفي جذبته منه وسألته:
- أنت اسمك عم حسن؟
ابتسم وقال:
- لا..
أنا اسمي عم منصور.
- وأنا أحمد
فناء المدرسة كبير وواسع وتغطيه نجيل صفراء قصيرة وبه الكثير من الأولاد والبنات.
وعندما سألت أمي عم منصور عن مكتب حضرة الناظرة ضحك وقال:
- مكتب حضرة الناظر..
الأستاذ سرحان.
لا أعرف لِم انتابني شعور غامض بالخوف والأسى، فلم أكن أتخيل أن هناك مدرسة بدون حضرة الناظرة.
***
عندما دخلت فصل 2/1 المدرسة التي كانت هناك قالت لي:
- لا يا شاطر أنت في 2/2.
أقسمت لها أنني في فصل 2/ا لكنها لم تصدقني ولم تلتفت لي وتركتنا وهي تقول لعم منصور بصرامة وحزم:
- خذه إلى 2 / 2.
أخذتني المدرسة التي كانت تشرح الدرس في فصل 2 / 2 وأجلستني في آخر مقعد.. قلت لها:
- لا يا أبلة..
- أنا بقعد جنب ميرفت في أول تخته.
ميرفت وقفت وقالت:
- لا يا أبلة..
- أنا بقعد هنا وحدي.
في آخر مقعد جلست، أمامي تتراص رؤوس سوداء صغيرة.
لا أعرف لم تذكرت أمي وهي تتشح بالسواد عند باب بيتنا القديم بجوار حقائبنا الكبيرة، والشوارع المهجورة، والغمام الكثيف، وحضرة الناظرة وأبله بشات.. ميرفت التي كانت تسبقني إلى مقعدنا المشترك، وأبي وهو يلوح لنا بحرارة وأسى، فغمرني شجن هائل وبكيت حتى دق جرس الفسحة.
أحمد طوسون
حضرة الناظرة دخلت فصلنا، كل مرة تأخذ واحدا منا وتخرج، ثم تعود بمفردها لتأخذ آخر.
أبلة بشات مدرسة الحساب تركت الكتاب والطباشير وقالت:
- قيام
حضرة الناظرة لم تكن معها ابتسامتها الطيبة حين قالت:
- جلوس
بدت شاحبة وهزيلة على غير عادتها، تتكلم مع أبلة بشات وتتساقط قطع المرارة المكتنزة بعينيها قطرات صغيرة على الأرض.
البنت ميرفت تنقل الدرس من السبورة إلى كراستها وحسام خطف سندوتش نجوى..
حضرة الناظرة نادت على اسمي فوقفت، وتوقفت ميرفت عن نقل الدرس، وترك حسام سندوتش نجوى.
حضرة الناظرة قالت للأولاد في الفصل:
- قولوا لزميلكم مع السلامة.
ميرفت لم تقل - مع باقي الفصل - مع السلامة، أبلة بشات ضمتني إليها ونظرت إلي حضرة الناظرة ومسحت دمعة سحت من عينيها وقالت:
- كان أشطر ولد في الفصل!
***
كل صباح أنتظرها عند آخر شارعنا، تتشابك أصابعنا الصغيرة ونطوح بأيادينا عاليا حتى تلامس السماء.
في الميدان نلتقي وباقي الأصحاب ننتشر ونتسابق كجرذان فزعة حتى باب المدرسة.
منذ فترة يحرص الآباء والأمهات على اصطحابنا إلى باب المدرسة، ننفلت من أياديهم الخشنة ونقفز إلى الساحة، أظل أبحث عنها بين الرؤوس السوداء الصغيرة حتى نلتقي في طابور الصباح وتقف بجواري.
على درجات السلم تفلت مني وتسبقني إلى احتلال مكانها بمقعدنا المشترك ولا نفترق إلا عند أول شارعنا آخر النهار.
اليوم عندما أخذتني حضرة الناظرة من الحصة الثانية، سألتني ميرفت:
ـ هترجع نروح سوا؟
لم أعرف بمَ أجيبها، ابتلعت صمتي وعبرت نظراتها ونظراتهم وسرت حتى نهاية الفصل وأنا أفكر في زملائي الذين خرجوا ولم يعودوا ثانية إلى الفصل.
عند الباب شعرت بانقباض وغصة في قلبي لم أعرف سببها ولمحت كائنات صغيرة ترتعب في وجوههم.
***
عندما نزلنا سلم المبني القديم إلى فناء المدرسة كان عم حسن يدق جرس الحصة الثانية.
بعد برهة سمعنا انفجارا مدويا وأحسسنا بارتجاج الأرض تحتنا.
حضرة الناظرة لقفتني إلى حضنها.. لم يمر وقت وتلقفني أبى من حضرة الناظرة إلى حضنه ويديه الخاليتين من سندوتشات الجبن البيضاء ومربى التين أو زمزمية الماء.
سلم أبي على حضرة الناظرة وصحبني معه.
عند باب المدرسة الحديدي لم أجد أثرا لفاترينة عم شعبان ولم يكن هناك أحد من باعة الحلوى.
كان أبي يربت على ظهري عندما تلاقت عينانا وقلت له:
- بابا باقي حصة على الفسحة..؟!!
لكنه لم ينظر إليّ ونحن نترك شارع المدرسة إلى الميدان ولم يتكلم.
***
بلون الرماد تكون نهارات ديسمبر وبطعم الشجن تتزين غماماته الكثيفة، كنت أشعر بالحمى تسري إلي جسدي وسخونة جلدي تلسعني كلما لامسني الهواء الندي وثمة شيء بداخلي يقارب على الانفجار.
الشوارع خالية وكئيبة.. حوائط كثيرة متهدمة تسد الطريق أمامنا..عربات باللون الكاكي تربض من بعيد فأشعر بالاختناق.
لم أكن أستطيع التخلص من البلوفر الأزرق الذي صنعته أمي أو حقيبة كتبي المعلقة فوق ظهري، وأشعر بأياد خفية تلتف حول عنقي وتحاول خنقي وأنا لا أستطيع أن ألقي بحقيبة الكتب إلى الأرض حتى لا يغضب أبي ولا أن أرتدي القميص الرمادي الذي اشتراه في عيد ميلادي وأترك البلوفر الأزرق منعا لمخالفة أوامر أمي بخصوص نزلات البرد والسعال الذي ينتابني.
***
عند البيت كانت تتشح بالسواد وحولها تلتف نساء جيراننا، حقائبنا الكبيرة التي سكنت سطوح دولابنا خرجت عند عتبة بابنا ووقفت منتفخة بصحبة حقائب جيراننا.
أناس كثيرون اختطفوني إلى أحضانهم، ونساء كثيرات كن يقبلنني ويبكين.
منذ موت جدي لم أر أمي بهذه الحالة ولم أر كلَّ هؤلاء في شارعنا والفزع يتصيد وجوههم التعبة.
كانوا يتحدثون عن النوافذ الزرقاء والغارات الغاشمة والتهجير والمقاومة الشعبية والنوارس التي لم تعد تحلق في سماء القنال.
لم أسأل أمي عن سبب بكائها ولم أسأل أحدا من جيراننا.. لكنني كنت أبكي مثلهم دون أن أعرف السبب.
***
- إمتى الحرب تخلص؟؟!
كانت المرأة تسأل جارتها في العربة المكتظة بنا وأمي تبتلع دموعها في صمت موحش وتلتصق بجسدي الصغير وتحوط عنقي بيديها الدافئتين..لا أعرف لِم أحسست أنها تبحث عندي عن شيء افتقدته.
كانت الأجساد تنحشر وتتدافع في العربة وأبى يلوح لنا وعلى وجهه دموع ثقيلة وعربات كثيرة حولنا تتكدس بالحقائب الكبيرة ووجوه كثيرة أعرفها بدت وكأنها غريبة عني.
العربة تمرق بجوار بيوتنا المهجورة وصدى أنين بعيد يخطف قلبي.
أمي تعبث في شعري وأحس بدقات قلبها تقصف جوارحي وعيناها تلمعان رعبا من حركة شفتي.
- هو بابا مش هاييجي معانا؟
- لأ...
- ليه يا ماما ؟..
أحنا رايحيين فين؟؟
- مش عارفة..
ساعتها كان صوتها يئن بشجن طائر ذبيح وسقطت دموعها الباردة على وجهي.
- ومش هروح المدرسة؟؟
- هتروح..
لا أعرف لِم لمْ أصدق أمي وغمرني أحساس بفقد ميرفت والمدرسة وبفقد أشياء كثيرة أحبها.
تدافعت الأسئلة إلى رأسي تسألني عن سبب تركنا لبيتنا ومدرستي وكل الذين أحبهم. لكنني حين نظرت إلي أمي ارتعدت من العتمة المكومة في عينيها فالتصقت بجسدها الشاحب وعبرت نظراتها الفزعة إلى الرمال المتدفقة حولنا أتابع ركضها المستمر خلفنا.
***
بباب حديدي كبير وسور عال وحديقة كبيرة وصالة فارعة تتسع لكل زملائي في الفصل وحجرات كثيرة وأخري خاصة بي - بها سرير نظيف ومكتب ودولاب يمتلأ بالملابس الجديدة واللعب الجميلة وراديو صغير- كان بيتنا.
ولا أعرف سببا لوجودنا هنا في هذه الحجرة الضيقة مع كل هؤلاء..
أحب أن أكون مع أبي في بيتنا وأكره هذه الحجرة الباردة، وهؤلاء الناس وأغطيتهم الخشنة وخبزهم الجاف ومعلباتهم المرة.
***
منذ جئنا إلي هنا لم نترك هذا المكان القذر..
ولم أر على وجه أمي ابتسامتها الطيبة..
بين الحين والحين كنا نسمع نساء جيراننا يتحدثن عن القادمين من السويس، وأخبار القتال وأفواج التهجير التي تتوالى.
اسأل أمي عن أبي الذي لم يعد حتى الآن، لكنها تتركني ولا تجيب!.
اليوم قبلتني أمي وقالت:
- ألبسْ علشان نروح المدرسة.
بعيون مدهشة كنت أراقبها وهي تفك أزرار بيجامتي، واستسلمت لمشاعري وهي تنسج فرحتها على خيوطي.
عبثا كنت أحاول إبعاد صورة أبي وهو يحمل سندوتشات الجبن والمربى وينتظرني عند باب المدرسة.
ميرفت.. وعم حسن.. وحضرة الناظرة وأبلة بشات، عبثا كنت أحاول أبعادهم عن طريقي حتى أرتدي ملابسي.
بلعت فرحتي وتأهبت ليوم مبهج وأقسمت هذه المرة أن أسبق ميرفت إلى احتلال مقعدنا حتى تفاجأ بي.
انتهيت من ارتداء ملابسي وسألت أمي إن كان أبي سيحضر ويأخذنا إلى بيتنا أم سينتظرنا هناك بسندوتشات الجبن والمربى؟
أنَّتْ أمي ولم تنظر لي وهي تقول:
- لا..
أنت هتروح المدرسة الجديدة.
***
كان الراديو يهتز فوق المنضدة وأمي تنصت بلهفة لصوت المذيع بعد أن وضعت البطاريات الجديدة التي اشترتها من بقالة عم لطفي بأول الشارع ورفض عم لطفي أن يأخذ ثمنها وتدير المؤشر ليصبح أكثر وضوحا.
لا أعرف لِم تذكرت عمي عاصم..
حين دق بابنا ذات يوم أحدهم ومعه بعض المتعلقات التي تخص عمى عاصم وما قاله عن استشهاده في العمليات.
ارتدت أمي السواد وبكى أبى كطفل صغير ينهنه وابتلعت جدتي حسرتها وتحدثت عن أحلامه التي لم يحقق شيئا منها وعروسه التي لم تهنأ به.
أبي وما قاله عن وجوده الآن بصحبة الملائكة والصحابة.
وحين تمنيت أن أكون معه ومع الملائكة ضربت أمي صدرها بكفها وشدتني إلى حضنها وقالت:
- ألف بعد الشر يا حبيبي..
ربنا يحرقهم الكفرة.
أغلقت أمي الراديو ومسحت دمعة علقت على خدها وضمتني إليها.
كنت أحاول الإفلات من قبضة ذراعيها حين قلت:
- ماما هو بابا هيرجع امتى؟
- .....................
- ماما أنا مش عاوز أروح المدرسة الجديدة.
ضغطت علي أمي وضمتني إلى حنانها وارتكنت بي إلى حضن الجدار وظلت تحملق في صورة أبي المعلقة هناك طيلة النهار.
***
بعد يومين عادت أمي وقالت:
- إن كنت تحب بابا تعال نروح المدرسة.
- بابا وحشني قوي يا ماما..
هو هيرجع امتى؟!
- هيرجع يا حبيبي....
- ..............
- بإذن الله هيرجع.
وأنا كنت أحب أبي ولا أريده أن يغضب لعدم ذهابي إلى المدرسة، وكنت أريد أن أقول له إنه وحشني جدا وإنني لن أكلمه عندما يأتي لأنه تركني ولم يأخذني معه..
وفكرت أنه من المؤكد بالمدرسة الجديدة توجد حضرة الناظرة وأبلة بشات وميرفت أيضا..
فعدت ووافقت.
***
عند باب المدرسة استقبلنا آخر لا يشبه العم حسن، وحين أمسك بكفي جذبته منه وسألته:
- أنت اسمك عم حسن؟
ابتسم وقال:
- لا..
أنا اسمي عم منصور.
- وأنا أحمد
فناء المدرسة كبير وواسع وتغطيه نجيل صفراء قصيرة وبه الكثير من الأولاد والبنات.
وعندما سألت أمي عم منصور عن مكتب حضرة الناظرة ضحك وقال:
- مكتب حضرة الناظر..
الأستاذ سرحان.
لا أعرف لِم انتابني شعور غامض بالخوف والأسى، فلم أكن أتخيل أن هناك مدرسة بدون حضرة الناظرة.
***
عندما دخلت فصل 2/1 المدرسة التي كانت هناك قالت لي:
- لا يا شاطر أنت في 2/2.
أقسمت لها أنني في فصل 2/ا لكنها لم تصدقني ولم تلتفت لي وتركتنا وهي تقول لعم منصور بصرامة وحزم:
- خذه إلى 2 / 2.
أخذتني المدرسة التي كانت تشرح الدرس في فصل 2 / 2 وأجلستني في آخر مقعد.. قلت لها:
- لا يا أبلة..
- أنا بقعد جنب ميرفت في أول تخته.
ميرفت وقفت وقالت:
- لا يا أبلة..
- أنا بقعد هنا وحدي.
في آخر مقعد جلست، أمامي تتراص رؤوس سوداء صغيرة.
لا أعرف لم تذكرت أمي وهي تتشح بالسواد عند باب بيتنا القديم بجوار حقائبنا الكبيرة، والشوارع المهجورة، والغمام الكثيف، وحضرة الناظرة وأبله بشات.. ميرفت التي كانت تسبقني إلى مقعدنا المشترك، وأبي وهو يلوح لنا بحرارة وأسى، فغمرني شجن هائل وبكيت حتى دق جرس الفسحة.
اسم
أحمد طوسون
انتهى كل شيء وعدنا .
عرف كل منا مكانه وجلس .
أخر من جاء حمل معه أوراق الأسماء ، أعطى كلا منا ورقته وجلس .
لم تشغلنا الأوراق ، ظلت أمامنا مطوية وبقيت معه ورقتان مطويتان على اسمين .
نظر إلينا وقال : تبقى ورقة لم يأخذها أحد !
تسحبت الوجوه تبحث عن جواب ، تسمرت عند كرسي خال لم يأت صاحبه .
قال : هل يعرفه أحد ؟
تساقطت شباك العنكبوت فوق وجوهنا ولم نتكلم .
قال : كان يجلس مكانك وأشار ناحية أحدنا ، لفنا جميعا بنظراته وبسلاسل من صمت وأشار : أو مكانك ، أو مكانك ...
كنا ننظر إلى المقعد الخالي ونسأل أنفسنا منذ متى غاب ؟ .
لم نفكر يوما في غياب أحدنا ، نجد مقاعد لكل منا ، مقعد خال حول الدائرة يكفى حتى لا نسأل أنفسنا عن غياب أحد ، طالما وجدت المقاعد لا مشكلة .
كلها تتشابه وإن اختلف مكانها حول الدائرة وليس مستغربا أن تجد وجه جارك اليوم غير وجه جار الأمس .
تمتم أحدنا دون أن يسمعه صاحب الورقتين أو ربما تظاهر بذلك وقال :
- إلا هو يحرص على نفس الكرسي .
.................................
قال : ثمانية أوراق ونحن سبعة ومقعد خالي .
قال أحدنا : لابد أنه مات ، لا يمنعه إلا الموت .
تخيل كل منا وجه الموت ، هل يمكن أن يشبه وجه أحدنا.
قام يصرخ فينا ، أعرف أنه مات ونريد أن نرفع اسمه إلى كشوف الموتى ونرفع مقعده من طاولتنا وتصبح سبعة أماكن لسبعتنا .
فكرنا فيما تعنيه كشوف الموتى ولم نصل إلى تصور ما ، ولم نجد مانعا لأن يبقى المقعد خاليا بيننا ، ربما يعود صاحبه ذات يوم .
جمع أوراقنا بين يديه .
ظل يدور حولنا ومعه الورقات ألثمان ، قال ثائرا : أعرف أنه مات ولن يعود .
سكت لحظة تفحص فيها ملامحنا الهشة وقال :
- هل يعرف أحد اسمه ؟
لم يجب أحد .
كنا مشغولين بمتابعة الأوراق بين يديه ، سمعنا أحدنا يتمتم : هل يجب علينا أن نحزن ؟
قال متوسلا :
- أرجوكم فكروا معي في وسيلة .
ساد صمت طويل قطعه أحدنا مذعورا :
- ماذا يعنى الموت .
غشيتنا لزوجة ، هرشنا أفكارنا ، أمسك كلٌّ منا كرسيه وتشبث بالطاولة .
قال بهدوء حزين : فكروا معي أرجوكم .
تخلينا عن مقاعدنا وقمنا جميعا ، ظللنا ندور حول الدائرة ومقاعدنا الخالية ، توقف أحدنا فأربك حركتنا وقال :
- أظن سمعت أحدنا يناديه ....
صمتنا جميعا وانتظرنا .
ظل يحك رأسه ويردد ، يناديه ، يناديه ...( أبو على )
أسرع صاحب الأوراق وجلس مكانه ، جلس كل منا على مقعدٍ ، ولم يصوب أحدنا نظره إليه ، وضع أمامه الأوراق وفتحها..
لا يوجد (أبو على ) في الأوراق.
قال الذي حاول التذكر :
- لكنني سمعتكم تنادونه (أبوعلي ) أو (أبو عماد )
حاولنا أن نتذكر معه ، لكننا لم نعتد أن ننادى أحدا باسمه ، الأسماء بالأوراق مطوية دائمة وكنا نظنه الوحيد الذي يعرف أسماءنا .
نظر إلينا وتعجب ، فحص الأوراق التي أمامه وقال :
-كل واحد يأخذ ورقته .
لكننا لم نفتح أوراقنا ، دائما كانت مطوية ، لم نعتن كثيرا بأسمائنا ... قال : وأنا لم أفتح ورقتي مثلكم .
أي ورقة كانت تكفينا للدخول والخروج من البوابات .
غطتنا الدهشة وساد صمت طويل ، حتى حارس البوابات لم يكن يفتح أوراقنا .. ( مطوية دائما الأوراق ) ، همس أحدنا :
- لكنه فتحها أمامنا منذ قليل .
همس آخر : وما فائدتها في يد واحدة ، ثمانية أوراق تحمل أية أسماء ..
قطع صوته همسنا : عندي فكرة إن وافقتموني عليها .
كلنا وافقنا .
قال : نأخذ ورقة من الأوراق ألثمان ونعطيها لكشوف الموتى ولن نوزع الأوراق بيننا بعد اليوم .
سمعنا تمتمات كثيرة ، ربما كانت تحمل اسمي ، أخاف من كشوف الموتى ، ربما تحمل اسم أي واحد منا ،سمعناه يقول : لقد وافقتم .
............................
كلما عدنا وجلسنا إلى مقاعدنا مسحنا المكان بنظراتنا ، نطيل النظر إلى خيوط العنكبوت على وجوهنا ويسود صمت أشبه بالحزن .
كان الوحيد الذي يخرج الأوراق ويعبث بها ثم يضعها في جيبه ويقول : كان أحسن حل توصلنا إليه ، لم نجد بعدها مقعدا خاليا .
أصر أحدنا أن الغائب (أبو عماد ) ، شك آخر أننا نقصنا عن ذي قبل ، قالها ثالث صراحة : أظننا أقل كثيرا من عددنا
سرت بيننا رعشة وهو يقول : من يومها لم ينقص أحد .
صاح أحدنا مذعورا : لقد أصبحنا خمسة فقط .
أحصينا عددنا جيدا ، خمسة فقط ، قال : لقد كنا دائما خمسة ، تمتم أحدنا :كنا ثمانية ، هرشنا ذاكرتنا ، قال : دائما ذاكرتكم ضعيفة ، تذكرون حين قال إنه سمعكم تنادونه (أبوعلي ) .
لم نتذكر أننا نادينا أحدا باسمه ، قلنا في أنفسنا طالما كنا موجودين فلم ينقص أحد ، قال أحدنا : ولكن في مرة سابقة وجدنا مقعدا خاليا وورقة زائدة .
عبث في الأوراق ، فتحها وقلبها جيدا ، قال : ربما لم تكن هناك مرة سابقة .
انكفأنا على الطاولة التي أمامنا ومسحنا لزوجتنا ، خمسة مقاعد لخمستنا .
ظل كل واحد منا يرددها ويحرص أن يسمعه الآخرون ، إلا هو كان يحرص أن يقف منتصبا أمام كرسيه ويردد مستمتعا : ربما ...ربما ... ربما .
بعدها ،كل يوم نحرص أن نكون خمسة ، كلما جلسنا إلى مقاعدنا أحصينا عددنا جيدا ورددنا خمسة مقاعد لخمستنا .
حين وجدنا العدد أربعة أحسسنا بالخطر .
قال : إن الدائرة أصبحت كبيرة عليكم ولم يعد لديكم القدرة على معرفة عددكم وأنتم تجلسون حولها .
قال آخر : كنا نحصى عددنا على نفس الدائرة من قبل ، قال :ربما كنا نخطئ دائما في العدد
قال أحدنا : نريد أوراقنا معنا ، لن تنفعنا إلا أوراقنا ! .
صمت قليلا وقال : ولكنكم لا تعرفون أسماءكم ، تمتم آخر : نريد أية أوراق .
قال : ربما أخذتم ورقتي .
لكنك مثلنا لا تعرف ورقتك ، أي ورقة تصلح للدخول والخروج من البوابات .
صحنا جميعا : سنأخذ أوراقنا ، سنأخذ أية أوراق ، قال يطمئننا : رغم أننا اتفقنا سابقا ، إلا أنني سأعطيكم أوراقكم المرة القادمة .
فكرنا ، قال أحدنا : ولِم لا نأخذها الآن ، لقد قلت من قبل إنه لم توجد مرات سابقة .
قال ستأخذونها المرة القادمة حين أحضرها معي .
.....................................
دائما كانت معه الأوراق .
نظرنا إلى بعضنا البعض ، بدت الحيرة على وجوهنا ، تهتكت خيوط العنكبوت فوق ملامحنا فبانت جرداء .
قلت : ربما لا تكون هناك مرة قادمة .
قال آخر : لا نملك إلا انتظار الغد .
أحمد طوسون
انتهى كل شيء وعدنا .
عرف كل منا مكانه وجلس .
أخر من جاء حمل معه أوراق الأسماء ، أعطى كلا منا ورقته وجلس .
لم تشغلنا الأوراق ، ظلت أمامنا مطوية وبقيت معه ورقتان مطويتان على اسمين .
نظر إلينا وقال : تبقى ورقة لم يأخذها أحد !
تسحبت الوجوه تبحث عن جواب ، تسمرت عند كرسي خال لم يأت صاحبه .
قال : هل يعرفه أحد ؟
تساقطت شباك العنكبوت فوق وجوهنا ولم نتكلم .
قال : كان يجلس مكانك وأشار ناحية أحدنا ، لفنا جميعا بنظراته وبسلاسل من صمت وأشار : أو مكانك ، أو مكانك ...
كنا ننظر إلى المقعد الخالي ونسأل أنفسنا منذ متى غاب ؟ .
لم نفكر يوما في غياب أحدنا ، نجد مقاعد لكل منا ، مقعد خال حول الدائرة يكفى حتى لا نسأل أنفسنا عن غياب أحد ، طالما وجدت المقاعد لا مشكلة .
كلها تتشابه وإن اختلف مكانها حول الدائرة وليس مستغربا أن تجد وجه جارك اليوم غير وجه جار الأمس .
تمتم أحدنا دون أن يسمعه صاحب الورقتين أو ربما تظاهر بذلك وقال :
- إلا هو يحرص على نفس الكرسي .
.................................
قال : ثمانية أوراق ونحن سبعة ومقعد خالي .
قال أحدنا : لابد أنه مات ، لا يمنعه إلا الموت .
تخيل كل منا وجه الموت ، هل يمكن أن يشبه وجه أحدنا.
قام يصرخ فينا ، أعرف أنه مات ونريد أن نرفع اسمه إلى كشوف الموتى ونرفع مقعده من طاولتنا وتصبح سبعة أماكن لسبعتنا .
فكرنا فيما تعنيه كشوف الموتى ولم نصل إلى تصور ما ، ولم نجد مانعا لأن يبقى المقعد خاليا بيننا ، ربما يعود صاحبه ذات يوم .
جمع أوراقنا بين يديه .
ظل يدور حولنا ومعه الورقات ألثمان ، قال ثائرا : أعرف أنه مات ولن يعود .
سكت لحظة تفحص فيها ملامحنا الهشة وقال :
- هل يعرف أحد اسمه ؟
لم يجب أحد .
كنا مشغولين بمتابعة الأوراق بين يديه ، سمعنا أحدنا يتمتم : هل يجب علينا أن نحزن ؟
قال متوسلا :
- أرجوكم فكروا معي في وسيلة .
ساد صمت طويل قطعه أحدنا مذعورا :
- ماذا يعنى الموت .
غشيتنا لزوجة ، هرشنا أفكارنا ، أمسك كلٌّ منا كرسيه وتشبث بالطاولة .
قال بهدوء حزين : فكروا معي أرجوكم .
تخلينا عن مقاعدنا وقمنا جميعا ، ظللنا ندور حول الدائرة ومقاعدنا الخالية ، توقف أحدنا فأربك حركتنا وقال :
- أظن سمعت أحدنا يناديه ....
صمتنا جميعا وانتظرنا .
ظل يحك رأسه ويردد ، يناديه ، يناديه ...( أبو على )
أسرع صاحب الأوراق وجلس مكانه ، جلس كل منا على مقعدٍ ، ولم يصوب أحدنا نظره إليه ، وضع أمامه الأوراق وفتحها..
لا يوجد (أبو على ) في الأوراق.
قال الذي حاول التذكر :
- لكنني سمعتكم تنادونه (أبوعلي ) أو (أبو عماد )
حاولنا أن نتذكر معه ، لكننا لم نعتد أن ننادى أحدا باسمه ، الأسماء بالأوراق مطوية دائمة وكنا نظنه الوحيد الذي يعرف أسماءنا .
نظر إلينا وتعجب ، فحص الأوراق التي أمامه وقال :
-كل واحد يأخذ ورقته .
لكننا لم نفتح أوراقنا ، دائما كانت مطوية ، لم نعتن كثيرا بأسمائنا ... قال : وأنا لم أفتح ورقتي مثلكم .
أي ورقة كانت تكفينا للدخول والخروج من البوابات .
غطتنا الدهشة وساد صمت طويل ، حتى حارس البوابات لم يكن يفتح أوراقنا .. ( مطوية دائما الأوراق ) ، همس أحدنا :
- لكنه فتحها أمامنا منذ قليل .
همس آخر : وما فائدتها في يد واحدة ، ثمانية أوراق تحمل أية أسماء ..
قطع صوته همسنا : عندي فكرة إن وافقتموني عليها .
كلنا وافقنا .
قال : نأخذ ورقة من الأوراق ألثمان ونعطيها لكشوف الموتى ولن نوزع الأوراق بيننا بعد اليوم .
سمعنا تمتمات كثيرة ، ربما كانت تحمل اسمي ، أخاف من كشوف الموتى ، ربما تحمل اسم أي واحد منا ،سمعناه يقول : لقد وافقتم .
............................
كلما عدنا وجلسنا إلى مقاعدنا مسحنا المكان بنظراتنا ، نطيل النظر إلى خيوط العنكبوت على وجوهنا ويسود صمت أشبه بالحزن .
كان الوحيد الذي يخرج الأوراق ويعبث بها ثم يضعها في جيبه ويقول : كان أحسن حل توصلنا إليه ، لم نجد بعدها مقعدا خاليا .
أصر أحدنا أن الغائب (أبو عماد ) ، شك آخر أننا نقصنا عن ذي قبل ، قالها ثالث صراحة : أظننا أقل كثيرا من عددنا
سرت بيننا رعشة وهو يقول : من يومها لم ينقص أحد .
صاح أحدنا مذعورا : لقد أصبحنا خمسة فقط .
أحصينا عددنا جيدا ، خمسة فقط ، قال : لقد كنا دائما خمسة ، تمتم أحدنا :كنا ثمانية ، هرشنا ذاكرتنا ، قال : دائما ذاكرتكم ضعيفة ، تذكرون حين قال إنه سمعكم تنادونه (أبوعلي ) .
لم نتذكر أننا نادينا أحدا باسمه ، قلنا في أنفسنا طالما كنا موجودين فلم ينقص أحد ، قال أحدنا : ولكن في مرة سابقة وجدنا مقعدا خاليا وورقة زائدة .
عبث في الأوراق ، فتحها وقلبها جيدا ، قال : ربما لم تكن هناك مرة سابقة .
انكفأنا على الطاولة التي أمامنا ومسحنا لزوجتنا ، خمسة مقاعد لخمستنا .
ظل كل واحد منا يرددها ويحرص أن يسمعه الآخرون ، إلا هو كان يحرص أن يقف منتصبا أمام كرسيه ويردد مستمتعا : ربما ...ربما ... ربما .
بعدها ،كل يوم نحرص أن نكون خمسة ، كلما جلسنا إلى مقاعدنا أحصينا عددنا جيدا ورددنا خمسة مقاعد لخمستنا .
حين وجدنا العدد أربعة أحسسنا بالخطر .
قال : إن الدائرة أصبحت كبيرة عليكم ولم يعد لديكم القدرة على معرفة عددكم وأنتم تجلسون حولها .
قال آخر : كنا نحصى عددنا على نفس الدائرة من قبل ، قال :ربما كنا نخطئ دائما في العدد
قال أحدنا : نريد أوراقنا معنا ، لن تنفعنا إلا أوراقنا ! .
صمت قليلا وقال : ولكنكم لا تعرفون أسماءكم ، تمتم آخر : نريد أية أوراق .
قال : ربما أخذتم ورقتي .
لكنك مثلنا لا تعرف ورقتك ، أي ورقة تصلح للدخول والخروج من البوابات .
صحنا جميعا : سنأخذ أوراقنا ، سنأخذ أية أوراق ، قال يطمئننا : رغم أننا اتفقنا سابقا ، إلا أنني سأعطيكم أوراقكم المرة القادمة .
فكرنا ، قال أحدنا : ولِم لا نأخذها الآن ، لقد قلت من قبل إنه لم توجد مرات سابقة .
قال ستأخذونها المرة القادمة حين أحضرها معي .
.....................................
دائما كانت معه الأوراق .
نظرنا إلى بعضنا البعض ، بدت الحيرة على وجوهنا ، تهتكت خيوط العنكبوت فوق ملامحنا فبانت جرداء .
قلت : ربما لا تكون هناك مرة قادمة .
قال آخر : لا نملك إلا انتظار الغد .
قربانه..
أحمد طوسون
عند شجرة اللبخ الكبيرة بمحطة القطار، كنت أجمع زهرات ذقن الباشا عندما يهزها هواء مارس الدفيء فتتساقط ويفوح عطرها بالمكان.
أضعها في جيب بنطالي الصغير، وأحملها إلى أمي..
تخلطها بالماء وترشها بأركان البيت، فيطل الربيع بوجهه الضحوك من نوافذنا المفتوحة على مصاريعها.
حينها رأيتها تهبط من القطار الذي أطلق صفارة طويلة أفزعت العصافير فحلقت وطارت بعيدا وحط القطار بمحطتنا.
كانت بين زميلاتها بـ"فيونكتها" الحمراء وقميصها الأبيض ومريلتها الزرقاء، تضم كتبها إلى صدرها وتفرش ضحكتها على رصيف المحطة.
لحظتها شعرت بقبضة في قلبي وانغرست بذرة لكائن مجهول بصدري وذابت زهرات ذقن الباشا بين أصابعي، وسقطت على الأرض فجرفتها نسمة ربيعية بعيدا واختلطت بالتراب الناعم الذي غطى الرصيف.
أغمضت عينيّ لأحتفظ بصورتها لأطول فترة ممكنة، حتى علت صفارة القطار من جديد وارتج رصيف المحطة وصرت وحيدا بين جدران المحطة العجوز.
***
عندما أغمضت الشمس جفنيها وفرش الليل ستارته، جاءت إلى سريري..
رفعت غطائي وجذبتني من يديّ، فشعرتُ بسخونة فيهما وفتحت عينيّ على ابتسامة مدهشة..
حرّكتُ لساني بسؤال وجِل وقلت:
- أنتِ....؟
منعتني الكلام حين وضعت إبهامها فوق شفتيّ المرتعشتين..
رفعت يديها عاليا فظهرت لها أجنحة بيضاء صغيرة كأجنحة الملائكة، وطارت بي عاليا بين الغمامات البيض.
ظللنا نتأرجح ونلامس السماء بأكفنا الصغيرة ونلونها بألوان قوس قزح، حتى أيقظتني أمي وقالت:
- انهضْ
- ستتأخر على المدرسة!
في الطريق إلى المدرسة شاهدت البنات بقمصانهن البيض ومرايلهن الزرقاء فدق قلبي بعنف وفاحت حولي رائحة زهرات ذقن الباشا.
لم أعرف لِمَ قادتني قدماي إلى رصيف المحطة..
صفر القطار صفارة طويلة موجعة ورحل بعيدا، وخلا رصيف المحطة من المرايل الزرقاء دون أن أجدها..
سحبت قدمي وجرجرتهما إلى طريق المدرسة، لكن العم رشيدي أغلق الباب في وجهي ولم يفتح.
***
أتى قطار ثم عاد..
وأتى قطار آخر فارتجف رصيف المحطة وزقزق كروان وحط فوق شجرة اللبخ وهز أوراقها فسقطت زهرة ذقن الباشا فوق وجهي.
رأيتها تهبط مع صويحباتها، فرش البستاني البذرة التي انغرست في قلبي ورواها بماء الحياة.
قادني الحنين، فسرت خلفهن، وظللت أتبعهن عن بعد حتى افترقنَ عند ميدان البلدة وودعن بعضهن بالضحكات، وسلكت هي الطريق إلى شارع الكنيسة.
تابعت خطواتها وهي تلمس الأرض بكل خفة.. أقلص الخطوات بيني وبينها، حتى دنوت فشعرت بحرارة القرب.
همست في أذنها:
- أنتِ جميلة جدا
استدارات ناحيتي..
وقبل أن تكمل عيناي الذاهلتان من وهج جمالها دورانهما حول محيطها شعرت باحمرار وجهي والحمى التي تستعر في جسدي، وقبضة في قلبي.
تفحصتني من أسفل إلى أعلى، وقالت:
- أنتَ ولد صغير..
وقليل الأدب.
شعرتُ بعرق غزير يغطي جسدي، وبقلبي يدق بعنف وبقدمي ترتعشان وتتخبطان في بعضهما.. فلم أنبس بحرف.
تركتني وواصلت طريقها على وقع خطواتها التي كانت تدهس قلبي، حتى وصلت إلى باب الكنيسة ودخلت إلى هناك.
***
حين يشدني الحنين أغمض عيني وأستعيد صورتها وصوتها حتى أكاد ألمسهما في انتظار أن يأتي قطارها.
أتبعها عن بعد وهي تسير بين صويحباتها.. تغافلهن وتلتفت خلفها بين برهة وأخرى.
تراني فتبتسم وتمد خطواتها.
عند شارع الكنيسة صارت وحيدة.
تباطأت خطواتها، فأبطأت خطواتي لتظل المسافة بيننا كما هي.
عندما توقفت في منتصف الشارع، توقفتُ.
لم أعرف ماذا أفعل، هل أستدير وأعود إلى بيتي أم أقف في مكاني كتمثال تجمد من الصقيع؟!
رأيتها تشير بكفها ناحيتي بما يعني تعال..
التفتُّ حولي فلم أجد أحداً غيري.. أسرعت إليها ووقفت بين يديها وقلت:
- أناااااااااااا؟!
تلك المرة لم تكن ابتسامتها معها.. كانت غاضبة كطفلة كُسِّرَت لعبتها للتو وهي تقول:
- أنت عاوز إيه؟
لم أعرف بِمَ أجيب، وماذا أريد منها، لكن وجدتني أقول:
- نتجوز..
ضحكت قبل أن تستعيد صرامتها ويتحول صوتها إلى عصا تلسع وهي تقول:
- أنت عبيط؟
لا تمشِ خلفي بعد اليوم.
ملت بنظراتي إلى الأرض وشعرت بجفاف حلقي ولم أستطع أن أقول لها شيئا.
حين أيقنَتْ أنني لن أتكلم تركتني ورحلت بخطوات مسرعة حتى دخلت من باب الكنيسة.
بينما عدت إلى بيتي أرتجف من الحمى التي دهمتني.. وأصبح صدى صوتها الذي كان يملأ قلبي بالفرح يلسعه بالألم، وأحسست بالدموع تحتبس في عيني فلم أستطع منعها.. وقلت في نفسي: لن أتبعها بعد اليوم!
***
ليومين لم أبرح فراشي بعد أن كومت أمي الأغطية فوقي، ولم أذهب إلى المدرسة.
في اليوم الثالث ارتديت أكثر من بلوفر وذهبت إليها.
في الفسحة أصحابي كانوا يلعبون بحوش المدرسة حين سمعتهم يقولون إن عامر يسكن بشارع الكنيسة.
من حينها صار صديقي.
قلت له: نذاكر معا.. يوما عندك، ويوما عندي، وأصررت أن أصحبه إلى بيته بعد المدرسة.
من خلف خصاص النافذة ظللت أتطلع إلى الشارع وأترقب وصولها.
تسحب عامر وجلس بجانبي وقال:
- أفتح الشباك؟
أومأت برأسي " لا"، وأشرت له أن يصمت وينظر معي من بين خصاص النافذة، حتى عبرت من أمامنا.
ضحك عامر وقال:
- يا ابني دي في ثانوي
هتبصلك أنت؟!
خفق قلبي وانقبض بعنف.. التفتُّ إليه وقلت:
- أنت تعرفها؟
- طبعا..!!
- طيب اسمها إيه؟
لكنه رفض أن ينطق بحرف قبل أن أعطيه علبة الألوان الفلومستر التي اشتراها أبي لي بعد إلحاح.
ترددت لبرهة، ثم اشترطت عليه أن يقول كل ما عنده أولا.
قال إن اسمها زهرة..
ظللت أردد اسمها بين شفتي دون أن يسمعني عامر، ولا أعرف لِم اعتقدت أن من الطبيعي أن يكون اسمها زهرة!
أبوها عم بولس خادم الكنيسة.
وأمها تصنع القرابين.
- وأين تسكن؟
جذب علبة الألوان من بين يدي، وقال:
- في الكنيسة.
***
تكررت زيارتي لعامر حتى فاجأتنا أمه ونحن ننظر من بين خصاص النافذة على الشارع.. لسعتنا بعصاها القاسية وقالت:
- يا عديمي الأدب
بتعاكسوا البنات من ورا الشباك!
من بعدها لم أعد أراها إلا حين عودتها من المدرسة، أتوارى خلف شجرة اللبخ وألمحها تهبط من القطار فيرتجف قلبي ويرشح بالحنين.
أيام مرت بعد إجازة آخر العام ولم أرها.
فكرت أن أزور عامر لكن عصا والدته جعلتني أطرد الفكرة عن رأسي وأبحث عن أخرى.
قررت أن أسير في شارع الكنيسة وحولها ربما قابلتها أو رأيتها صدفة.
لا أعرف كيف قادتني قدماي إلى هناك وعبرتا من باب الكنيسة.. سرت مخدرا بلا وعي حتى أفقت على صوت أحدهم يشير ناحيتي ويصيح:
- ولد مسلم غريب
امسكوه قبل أن يسرق شيئا!
جريت بسرعة خوفا أن يمسكوا بي وتراني زهرة.
أيام طويلة مرت وأنا أسير كعادتي حول الكنيسة دون أن أراها.
حين رآني عامر قال:
- أنت مجنون
هل تحبها بجد؟!
ملت برأسي ونظرت إلى الأرض ولم أتكلم.
لكنه عاد وضحك قائلا:
- من تظن نفسك
بنت في ثانوي..
ومسيحية..
تفكر فيك؟!!!
هززت رأسي وقلت:
- بالطبع لا..
سكت لحظة أخذت فيها نفسا شجيا، وقلت:
- لكنني لم أرها منذ أخذنا الإجازة!
عامر قال:
- طبعا يا ابني
علشان بتساعد أمها في عمل القرابين.
***
احتفظت بالكرة الجديدة التي اشتراها أبي هدية لنجاحي كما هي ولم أمسسها.
وحين زارني عامر أخرجتها من مخبئها وقلت:
- تشبه الكرة التي يلعبون بها في الساحة الشعبية
أمسك بها وقال:
- تمنيت لو كنا نمتلك واحدة
هيا لنلعب بها.
شدني من يدي لكنني تمنعت وقلت:
- أنا لا أحب لعب الكرة..
جذبت الكرة من بين يديه وحضنتها بين صدري وجلست على مقعدي.
عامر بدا غاضبا حين قال:
- لكنك كنت تلعب معنا بالمدرسة!
صمت لحظة ثم قلت:
- لم أعد أحبها!
مددت يدي بالكرة وناولتها له وقلت:
- يمكنك أن تأخذها..
- صحيح؟!!
قال عامر بلهفة واندهاش..
اقتربت منه وقلت:
- إن أردت..
طبعا..
إذا استطعت أن تأتيني بقربان من التي تصنعها زهرة!
***
عامر غاب لأيام، ثم عاد متهللا، وقال بثقة:
- أين الكرة؟!
هرعت إليه، وقلت:
- هل فعلتها؟
- طبعا..
أين الكرة؟
قلت:
- هات القربان أولا
واخرج وانتظرني عند أول الشارع حتى لا يلحظ أبي شيئا.
قبلت القربان ووضعته بين ملابسي وأغلقت ضلفة دولابي جيدا.. سحبت الكرة من تحت السرير وخرجت دون أن يشعر بي أحد، وعدت بدونها.
كل يوم أفتح دولابي وأُخرج القربان وأضعه أمامي وأتخيل زهرة وهي تصنعه بيديها، فيهتز الشجر الذي نبت بقلبي وأسمع حفيف أوراقه.
مرت أيام..
صحوت على صوت أمي تصيح وتسأل بغضب عمن وضع القربان في دولابي حتى تعفن.. أزاحته وألقته على الأرض، ثم كنسته.
بينما كان شيء صغير يتحطم في قلبي..
أحمد طوسون
عند شجرة اللبخ الكبيرة بمحطة القطار، كنت أجمع زهرات ذقن الباشا عندما يهزها هواء مارس الدفيء فتتساقط ويفوح عطرها بالمكان.
أضعها في جيب بنطالي الصغير، وأحملها إلى أمي..
تخلطها بالماء وترشها بأركان البيت، فيطل الربيع بوجهه الضحوك من نوافذنا المفتوحة على مصاريعها.
حينها رأيتها تهبط من القطار الذي أطلق صفارة طويلة أفزعت العصافير فحلقت وطارت بعيدا وحط القطار بمحطتنا.
كانت بين زميلاتها بـ"فيونكتها" الحمراء وقميصها الأبيض ومريلتها الزرقاء، تضم كتبها إلى صدرها وتفرش ضحكتها على رصيف المحطة.
لحظتها شعرت بقبضة في قلبي وانغرست بذرة لكائن مجهول بصدري وذابت زهرات ذقن الباشا بين أصابعي، وسقطت على الأرض فجرفتها نسمة ربيعية بعيدا واختلطت بالتراب الناعم الذي غطى الرصيف.
أغمضت عينيّ لأحتفظ بصورتها لأطول فترة ممكنة، حتى علت صفارة القطار من جديد وارتج رصيف المحطة وصرت وحيدا بين جدران المحطة العجوز.
***
عندما أغمضت الشمس جفنيها وفرش الليل ستارته، جاءت إلى سريري..
رفعت غطائي وجذبتني من يديّ، فشعرتُ بسخونة فيهما وفتحت عينيّ على ابتسامة مدهشة..
حرّكتُ لساني بسؤال وجِل وقلت:
- أنتِ....؟
منعتني الكلام حين وضعت إبهامها فوق شفتيّ المرتعشتين..
رفعت يديها عاليا فظهرت لها أجنحة بيضاء صغيرة كأجنحة الملائكة، وطارت بي عاليا بين الغمامات البيض.
ظللنا نتأرجح ونلامس السماء بأكفنا الصغيرة ونلونها بألوان قوس قزح، حتى أيقظتني أمي وقالت:
- انهضْ
- ستتأخر على المدرسة!
في الطريق إلى المدرسة شاهدت البنات بقمصانهن البيض ومرايلهن الزرقاء فدق قلبي بعنف وفاحت حولي رائحة زهرات ذقن الباشا.
لم أعرف لِمَ قادتني قدماي إلى رصيف المحطة..
صفر القطار صفارة طويلة موجعة ورحل بعيدا، وخلا رصيف المحطة من المرايل الزرقاء دون أن أجدها..
سحبت قدمي وجرجرتهما إلى طريق المدرسة، لكن العم رشيدي أغلق الباب في وجهي ولم يفتح.
***
أتى قطار ثم عاد..
وأتى قطار آخر فارتجف رصيف المحطة وزقزق كروان وحط فوق شجرة اللبخ وهز أوراقها فسقطت زهرة ذقن الباشا فوق وجهي.
رأيتها تهبط مع صويحباتها، فرش البستاني البذرة التي انغرست في قلبي ورواها بماء الحياة.
قادني الحنين، فسرت خلفهن، وظللت أتبعهن عن بعد حتى افترقنَ عند ميدان البلدة وودعن بعضهن بالضحكات، وسلكت هي الطريق إلى شارع الكنيسة.
تابعت خطواتها وهي تلمس الأرض بكل خفة.. أقلص الخطوات بيني وبينها، حتى دنوت فشعرت بحرارة القرب.
همست في أذنها:
- أنتِ جميلة جدا
استدارات ناحيتي..
وقبل أن تكمل عيناي الذاهلتان من وهج جمالها دورانهما حول محيطها شعرت باحمرار وجهي والحمى التي تستعر في جسدي، وقبضة في قلبي.
تفحصتني من أسفل إلى أعلى، وقالت:
- أنتَ ولد صغير..
وقليل الأدب.
شعرتُ بعرق غزير يغطي جسدي، وبقلبي يدق بعنف وبقدمي ترتعشان وتتخبطان في بعضهما.. فلم أنبس بحرف.
تركتني وواصلت طريقها على وقع خطواتها التي كانت تدهس قلبي، حتى وصلت إلى باب الكنيسة ودخلت إلى هناك.
***
حين يشدني الحنين أغمض عيني وأستعيد صورتها وصوتها حتى أكاد ألمسهما في انتظار أن يأتي قطارها.
أتبعها عن بعد وهي تسير بين صويحباتها.. تغافلهن وتلتفت خلفها بين برهة وأخرى.
تراني فتبتسم وتمد خطواتها.
عند شارع الكنيسة صارت وحيدة.
تباطأت خطواتها، فأبطأت خطواتي لتظل المسافة بيننا كما هي.
عندما توقفت في منتصف الشارع، توقفتُ.
لم أعرف ماذا أفعل، هل أستدير وأعود إلى بيتي أم أقف في مكاني كتمثال تجمد من الصقيع؟!
رأيتها تشير بكفها ناحيتي بما يعني تعال..
التفتُّ حولي فلم أجد أحداً غيري.. أسرعت إليها ووقفت بين يديها وقلت:
- أناااااااااااا؟!
تلك المرة لم تكن ابتسامتها معها.. كانت غاضبة كطفلة كُسِّرَت لعبتها للتو وهي تقول:
- أنت عاوز إيه؟
لم أعرف بِمَ أجيب، وماذا أريد منها، لكن وجدتني أقول:
- نتجوز..
ضحكت قبل أن تستعيد صرامتها ويتحول صوتها إلى عصا تلسع وهي تقول:
- أنت عبيط؟
لا تمشِ خلفي بعد اليوم.
ملت بنظراتي إلى الأرض وشعرت بجفاف حلقي ولم أستطع أن أقول لها شيئا.
حين أيقنَتْ أنني لن أتكلم تركتني ورحلت بخطوات مسرعة حتى دخلت من باب الكنيسة.
بينما عدت إلى بيتي أرتجف من الحمى التي دهمتني.. وأصبح صدى صوتها الذي كان يملأ قلبي بالفرح يلسعه بالألم، وأحسست بالدموع تحتبس في عيني فلم أستطع منعها.. وقلت في نفسي: لن أتبعها بعد اليوم!
***
ليومين لم أبرح فراشي بعد أن كومت أمي الأغطية فوقي، ولم أذهب إلى المدرسة.
في اليوم الثالث ارتديت أكثر من بلوفر وذهبت إليها.
في الفسحة أصحابي كانوا يلعبون بحوش المدرسة حين سمعتهم يقولون إن عامر يسكن بشارع الكنيسة.
من حينها صار صديقي.
قلت له: نذاكر معا.. يوما عندك، ويوما عندي، وأصررت أن أصحبه إلى بيته بعد المدرسة.
من خلف خصاص النافذة ظللت أتطلع إلى الشارع وأترقب وصولها.
تسحب عامر وجلس بجانبي وقال:
- أفتح الشباك؟
أومأت برأسي " لا"، وأشرت له أن يصمت وينظر معي من بين خصاص النافذة، حتى عبرت من أمامنا.
ضحك عامر وقال:
- يا ابني دي في ثانوي
هتبصلك أنت؟!
خفق قلبي وانقبض بعنف.. التفتُّ إليه وقلت:
- أنت تعرفها؟
- طبعا..!!
- طيب اسمها إيه؟
لكنه رفض أن ينطق بحرف قبل أن أعطيه علبة الألوان الفلومستر التي اشتراها أبي لي بعد إلحاح.
ترددت لبرهة، ثم اشترطت عليه أن يقول كل ما عنده أولا.
قال إن اسمها زهرة..
ظللت أردد اسمها بين شفتي دون أن يسمعني عامر، ولا أعرف لِم اعتقدت أن من الطبيعي أن يكون اسمها زهرة!
أبوها عم بولس خادم الكنيسة.
وأمها تصنع القرابين.
- وأين تسكن؟
جذب علبة الألوان من بين يدي، وقال:
- في الكنيسة.
***
تكررت زيارتي لعامر حتى فاجأتنا أمه ونحن ننظر من بين خصاص النافذة على الشارع.. لسعتنا بعصاها القاسية وقالت:
- يا عديمي الأدب
بتعاكسوا البنات من ورا الشباك!
من بعدها لم أعد أراها إلا حين عودتها من المدرسة، أتوارى خلف شجرة اللبخ وألمحها تهبط من القطار فيرتجف قلبي ويرشح بالحنين.
أيام مرت بعد إجازة آخر العام ولم أرها.
فكرت أن أزور عامر لكن عصا والدته جعلتني أطرد الفكرة عن رأسي وأبحث عن أخرى.
قررت أن أسير في شارع الكنيسة وحولها ربما قابلتها أو رأيتها صدفة.
لا أعرف كيف قادتني قدماي إلى هناك وعبرتا من باب الكنيسة.. سرت مخدرا بلا وعي حتى أفقت على صوت أحدهم يشير ناحيتي ويصيح:
- ولد مسلم غريب
امسكوه قبل أن يسرق شيئا!
جريت بسرعة خوفا أن يمسكوا بي وتراني زهرة.
أيام طويلة مرت وأنا أسير كعادتي حول الكنيسة دون أن أراها.
حين رآني عامر قال:
- أنت مجنون
هل تحبها بجد؟!
ملت برأسي ونظرت إلى الأرض ولم أتكلم.
لكنه عاد وضحك قائلا:
- من تظن نفسك
بنت في ثانوي..
ومسيحية..
تفكر فيك؟!!!
هززت رأسي وقلت:
- بالطبع لا..
سكت لحظة أخذت فيها نفسا شجيا، وقلت:
- لكنني لم أرها منذ أخذنا الإجازة!
عامر قال:
- طبعا يا ابني
علشان بتساعد أمها في عمل القرابين.
***
احتفظت بالكرة الجديدة التي اشتراها أبي هدية لنجاحي كما هي ولم أمسسها.
وحين زارني عامر أخرجتها من مخبئها وقلت:
- تشبه الكرة التي يلعبون بها في الساحة الشعبية
أمسك بها وقال:
- تمنيت لو كنا نمتلك واحدة
هيا لنلعب بها.
شدني من يدي لكنني تمنعت وقلت:
- أنا لا أحب لعب الكرة..
جذبت الكرة من بين يديه وحضنتها بين صدري وجلست على مقعدي.
عامر بدا غاضبا حين قال:
- لكنك كنت تلعب معنا بالمدرسة!
صمت لحظة ثم قلت:
- لم أعد أحبها!
مددت يدي بالكرة وناولتها له وقلت:
- يمكنك أن تأخذها..
- صحيح؟!!
قال عامر بلهفة واندهاش..
اقتربت منه وقلت:
- إن أردت..
طبعا..
إذا استطعت أن تأتيني بقربان من التي تصنعها زهرة!
***
عامر غاب لأيام، ثم عاد متهللا، وقال بثقة:
- أين الكرة؟!
هرعت إليه، وقلت:
- هل فعلتها؟
- طبعا..
أين الكرة؟
قلت:
- هات القربان أولا
واخرج وانتظرني عند أول الشارع حتى لا يلحظ أبي شيئا.
قبلت القربان ووضعته بين ملابسي وأغلقت ضلفة دولابي جيدا.. سحبت الكرة من تحت السرير وخرجت دون أن يشعر بي أحد، وعدت بدونها.
كل يوم أفتح دولابي وأُخرج القربان وأضعه أمامي وأتخيل زهرة وهي تصنعه بيديها، فيهتز الشجر الذي نبت بقلبي وأسمع حفيف أوراقه.
مرت أيام..
صحوت على صوت أمي تصيح وتسأل بغضب عمن وضع القربان في دولابي حتى تعفن.. أزاحته وألقته على الأرض، ثم كنسته.
بينما كان شيء صغير يتحطم في قلبي..